عوالم يسري الجندي.. الغابة البشرية والضمير والميلاد

لم يكن يسري الجندي كاتبًا مسرحيًّا متفردًا فقط في تاريخ المسرح وبخاصة الشعبي والتراثي الذي قدّم من خلاله مسرحياته: (عنترة زمانه) (حكاية جحا مع الواد فلة) (القضية 88) (رابعة العدوية)، وغيرها من الأعمال التي بلغت أكثر من 20 مسرحية، بل كان أيضًا واحدًا من أهم كتّاب الدراما التلفزيونية وصنّاعها.
قدّم يسري الجندي مسلسلات تمثّل علامات في تاريخ الدراما العربية والمصرية، ونقاطًا إبداعية مضيئة مثل: (الحصار) (علي الزيبق) (أهلًا يا جدو العزيز) (عبد الله النديم) (جمهورية زفتى) (رابعة تعود) (ناصر) (سقوط الخلافة)، وفي كل مسلسل استطاع الجندي أن يحمل مشعل النبل الإنساني والإبداعي ويخلق لنا عالمًا يشير به إلى المستقبل.
عوالم مختلفة
تنوعت إبداعات الكاتب المسرحي والتلفزيوني يسري الجندي بين التراث الشعبي المصري والعربي، مثل (أبو زيد الهلالي) حيث أسطورة البطل العربي الخارج من أرض الحجاز إلى تونس الخضراء الباحث عن النجاة لأهله، إلى البطل الشعبي في (علي الزيبق) أحد أبطال السيرة الشعبية المصرية الذي يناضل ضد الحاكم الظالم، و(عنترة زمانه) الباحث عن الحرية، إلى ( اليهودي التائه)، ومن البطل العائد من التاريخ (أهلًا يا جدو العزيز) إلى البطل المصري لسان حال الثورة العرابية (عبد الله النديم)، ومن (رابعة تعود) إلى (سقوط الخلافة) ثم (ناصر) عن حياة جمال عبد الناصر.
في كل إبداعاته كان يسري الجندي يخلق عوالم درامية تدور حول المثل الإنسانية العليا، والبحث في الماضي والحاضر وصولًا إلى المستقبل حيث العدل والحرية والكرامة للإنسان والوطن.
نغوص من خلال الكتابة في عوالم يسري الجندي الإبداعية.
حوار أخير قبل الوفاة
لم تنقطع العلاقة بيني وبين الكاتب المسرحي والدرامي منذ لقائنا الأول في عام 1995 حتى الرحيل، وفي حوارنا الأخير قبل مرضه، كان يسري الجندي يترك رسالته الأخيرة، حيث أصابه إحباط كبير عقب أحداث الوطن الأخيرة، شاركني همّ النيل والتوقيع على اتفاقات السماح ببناء السدود، أشار إلى أحلام بالحرية والعدل والكرامة بعد يناير، وما صار من خذلان في الأحلام بعد ذلك.
إنقاذ البشرية في نهاية العالم
على فراش الموت يرقد (الدرديري أبو الفرج) مدرس الكيمياء الذي استُبعد من بعثة إلى أوربا عام 1924، بسبب مواقفه الوطنية، عاش حياته من أجل العلم، ويرى أن عالم الشمال يتعامل مع الجنوب على أنه حقل تجارب للأسلحة التي ينتجها، والأجهزة والحروب البيولوجية. يعيش (أبو الفرج) على أمل أو وهم وجود كائنات أفضل في كواكب أخرى تستطيع إنقاذ العالم من شرور الغابة، تعيد إلى الإنسانية الضمير والنقاء، يقترب الموت منه فاقدًا الأمل في هبوط كائنات تنشر العدل وتخلّص البشرية من أطماع الكبار، تنقي سماء العالم الثالث من غبار التجارب النووية وسمومها، ليحمل رسالته (رياض عبد ربه) مدرس الفلسفة ورفيقه في البحث عن العدل والحق والضمير.
هذا المشهد ضمن أحداث مسلسل يسري الجندي والمخرجة علوية زكي (نهاية العالم ليست غدًا) إنتاج عام 1983، بطل العمل رياض عبد ربه معلّم يتمسك بتدريس الفلسفة بمنطق إيجاد أفراد قادرين على التفكير والتعايش الإنساني الحقيقي، يرفض المقررات الصماء، يرفض الحشو الفارغ في العقول، ويرفض استغلال التلاميذ في الدروس الخصوصية.
في مواجهة رياض تأتي بدايات عالم دخول الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، محاولات هدم الأحياء الشعبية والتاريخية، لإنشاء ناطحات سحاب زجاجية ومولات تجارية، يريدون هدم المساكن المحيطة بالقلعة وتحويلها إلى أبراج، وكذلك حي كوم الدكة بالإسكندرية، موطن (سيد درويش) الموسيقار المصري الشهير في بدايات القرن العشرين، منطقة تمثال نهضة مصر، كذلك زراعة الأراضي في مصر بخضار (الملوخية) واستخدامها في عمل عطر (الملوكية)، حتى ابن أخيه الذي سافر من أجل الحصول على درجة الدكتوراه في الميكنة الزراعية يعود مع المستثمر الأجنبي (روبي) ليحوّل أراضي قريته إلى مزرعة ملوخية من أجل (البارفان) الجديد.
الصراع الدولي في العالم الثالث
من خلال هذا الصراع الذي تنغمس فيه أطراف داخل الحارة التي يقطنها (رياض عبد ربه) مثل ابنه وزوجته وبعض أهالي الحارة، تحت إغراء المال ومواكبة العصر ومماثلة العيش في عالم الكبار والأثرياء. وعلى الجانب الآخر، يقف معه صديقه الصحفي وابن أخته المؤلف المسرحي الذي يواجه عالم الفن الجديد، الذي يصبح فيه العمل الفني سلعة مثل الفساتين والغسالات والبارفانات، فهذا سوق الهزل الفني، وتصبح ابنة رياض سلعة تباع وتُشترى، لقد تحوّل العالم إلى “سوبر ماركت” كبير.
يشير يسري الجندي إلى حرب في جنوب غربي أفريقيا يستخدم فيها قطبا العالم أسلحة بيولوجية ونووية محدودة، فالعالم الثالث سوق للسلاح ومجال للتجارب لهذه الأسلحة، ويصبح العالم مهددًا بالفناء نتيجة لضغط على مفتاح السلاح النووي. هنا العالم الثالث، السوق ومجال التجربة، وتصبح الحالة ضرورية لهؤلاء القادمين من الفضاء لكي ينقذوا البشرية من النهاية المحتومة، الفناء على أيدي تجار البشرية.
تاريخ طويل من الحروب الدموية
عالم ينقسم إلى الثلث الراقي المتقدم، وثلثين من غبار البشر الفقراء. الثلث يمتلك القوة والعلم والتكنولوجيا، وثلثان هما السوق والفقر والدمار والجهل.
ملايين من الفقراء يموتون جوعًا، ملايين يغصّون في الأمية والبرد والتشرد، أطفال بلا مأوى، عرايا تحت المطر وتحت الشمس الحارقة.
تاريخ طويل من الصراع الدموي المخيف، ويصبح علينا أن نواجه حرب محو التاريخ في بلادنا، حيث يحل الهدم مكان البناء والفن والحضارة والضمير.
هل نعيد الضمير إلى الإنسانية؟
يطلِق (رياض عبد ربه) بطل مسلسل (نهاية العالم ليست غدًا) صرخته: “سيتم فناء العالم خلال أيام إذا لم نستعِد إنسانيتنا”. تتوقف عقارب الساعة لمواجهة الخطر، ويتساءل الجميع عن الحل، يتطلعون إلى مدرس الفلسفة، حين يبحث الجميع عن حل للإنقاذ حتى يستمر العالم (بنفس آلياته القديمة)، يفاجئهم البطل بأنه لا بد للعالم أن يتحول إلى العدل، إيقاف سباقات التسلح، زراعة العالم الثالث وتنميته، إيقاظ الضمير في التعامل، التوقف عن الحروب، عدالة توزيع الثروات بين الجنوب والشمال، فكان وهمًا لرياض عبد ربه ولم تتوقف الصراعات.
إن كان العالم قد نجا منذ سنوات من نهايته حين انسحب أحد أقطابه، فمن ينقذه الآن من نهاية قد تكون عاجلة غير استيقاظ ضمير العالم للنجاة من نهايات قد تكون بالفعل نهاية الجنس البشري؟
وإلى عوالم أخرى في رحلة يسري الجندي الإبداعية.