الكنائس على خط المواجهة في أوكرانيا

كيف كانت الحرب بين الكنيستين في موسكو وكييف؟!

بوتين والمطران

خدعوك فقالوا إن الكنيسة لا تعمل بالسياسة، روّجوا لهذا الوهم كثيرًا، نشروه في بلداننا العربية والإسلامية، فرضوا المفهوم علينا فهتف هاتفنا “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”، بعضهم كان حسَن النية بقوله إنه لا يريد أن يلوّث الدين بأدران السياسة، لكن آخرين كانوا يستهدفون إزاحة الدين الإسلامي تحديدًا عن الشأن العام، وهو الذي قال رسوله ﷺ: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، هؤلاء الآخرون ينكّسون رؤوسهم حين يرون بأمّ أعينهم تدخلات دينية غير إسلامية في السياسة، فلا ينطقون ببنت شفة، هم فقط أسود الكلمة حين يتعلق الأمر بالإسلام!!

الحرب الروسية الأوكرانية الحالية ليست حربًا عسكرية بين جيوش نظامية وغير نظامية فحسب، بل هي أيضًا “حرب كنسيّة” بين كنيسة موسكو وما يدعمها من كنائس أخرى من جهة، وكنيسة كييف وما يدعمها من كنائس أخرى. الغريب في الأمر أن الكنيستين تنتميان إلى مذهب واحد وهو الأرثوذكسية، لكن كنائس كاثوليكية وإنجيلية غربية دخلت على الخط داعمة للكنيسة الأوكرانية المستقلة تساوقًا مع موقف أوربا وأمريكا الداعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا.

رسالة إلى البطرك

في 12 مارس/آذار، وجهت 100 قيادة مسيحية أمريكية رسالة لبطريرك روسيا (كيرل) تناشده التدخل لدى الرئيس فلاديمير بوتين لإيقاف الحرب على أوكرانيا، والشيء ذاته فعله الكاردينال جان كلود رئيس أساقفة المجموعة الأوربية، وسبق الجميع البابا فرنسيس الذي قال في عظته الأسبوعية “باسم الرب أوقِفوا هذه المذبحة قبل أن تتحول المدن إلى مقابر، أوقِفوا هذه الحرب المروعة التي تقتل بهمجية الأطفال والأبرياء والمدنيين العزل، حيث حولت مدينة العذراء مريم ماريوبول إلى مدينة ضحية للحرب”.

من جانبه، كان البطريرك كيرل مطران روسيا منذ اللحظات الأولى منحازًا إلى الرئيس بوتين الذي وصفه من قبل بأنه “معجزة الرب”، وحمّل أوكرانيا منذ البداية المسؤولية عن إبادة الموالين لروسيا داخلها، واصفًا الحرب بأنها صراع ضد القيم الغربية المزعومة مثل “مناولة” المثليين (المناولة تعبير كنسي) والمتحولين جنسيًا وغيرها. وفي مقابل الوصف بـ”معجزة الرب” فإن مطران الكنيسة الأوكرانية إيبيفاني قال “إن روح الدجال تعمل في زعيم روسيا، وهذا له علاماته في الكتاب المقدس: الكبر، الإخلاص للشر، القسوة والنفاق”.

حشد كاشف لا مُنشئ

غريب بطبيعة الحال أن تندلع هذه الحرب بين كنيستين تنتميان إلى مذهب واحد (أرثوذكسي)، وعِرق واحد (سلافي)، بينما تنبأ فيلسوف الغرب الحديث صمويل هنتنجتون بصدام الحضارات، وقد أسقطت الحرب الأوكرانية نظريته، فها هو الصراع بين أبناء المذهب الواحد والحضارة الواحدة، والعِرق الواحد. في أوكرانيا نفسها كنيستان، إحداهما تابعة لمطرانية روسيا، والثانية استقلت عنها منذ العام 1990 مع استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي “المنحل”، وقد تسبب الغزو الروسي الأخير في أزمة للكنيسة التابعة لمطرانية موسكو، التي وجهت انتقادات إلى الرئيس بوتين.

هذا الحشد الكنسي الغربي المناهض لغزو بوتين لأوكرانيا، هو كاشف وليس مُنشئًا للدور السياسي للكنائس الذي تحاول الاستتار منه بغلالة دينية، لكنها لا تستطيع الصمود طويلًا أمام الواقع. وهذا الحشد يحاول التمسح الآن بلبوس السلام ومعاداة الحروب، بينما صمت من قبل على غزو أمريكا لأفغانستان والعراق، ولم يظهر بهذه القوة حين وقعت مذابح الكروات (الكاثوليك) والصرب (الأرثوذكس) ضد مسلمي البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي.

بعد وقوع مذبحة سريبرينيتسا الشهيرة في البوسنة منتصف العام 1995، عقد البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية المصرية مؤتمرًا صحفيًا عالميًا للتبرؤ من تلك المذبحة، كان الرأي العام المصري ساخطًا بشدة، ومتعاطفًا بقوة مع ضحايا تلك المذبحة، وبدأت في الظهور مشاعر سلبية تجاه الكنيسة المصرية التي لم تدن المذبحة عند وقوعها، ولم تدن الحرب منذ البداية. سألتُ البابا خلال ذلك المؤتمر عن سبب تأخر الإدانة إلى ما بعد انتهاء المذبحة وسقوط مئات القتلى، وقلت له “إن لديكم سلطة روحية كانت قادرة على لجم الجناة”، لم يجد البطرك ردًا مقنعًا عن التأخر في إعلان الموقف، لكنه جدد إدانته للمذبحة وكل من ارتكبها.

 

الدين الأبيض

لقد اختلطت الروح الدينية باللون الأبيض فأنتجت هذا الحشد الديني السياسي الداعم لأوكرانيا، هو دفاع عن مسيحيين بيض يشبهون الأوربيين في عاداتهم وتقاليدهم، ويركبون سيارات مثلهم، كما عبّر أكثر من مراسل غربي في أوكرانيا، وكما عبّر دوق كامبريدج الأمير وليام “من المعتاد رؤية الحرب وسفك الدماء في أفريقيا وآسيا ولكن ليس في أوروبا”، هذا الحشد الديني السياسي ذاته لم يتحرك يومًا لحماية المسيحيين في فلسطين لأنهم ليسوا من ذوي البشرة البيضاء.

أدرك أن بوتين ليس قائدًا دينيًا، بل هو سياسي ماكر يستخدم كل الأسلحة في معركته، وهو يدرك أن سلاح الكنيسة سلاح بتّار، خاصة أن من يقف على رأسها هو زميل سابق له في المخابرات السوفيتية السابقة (كي جي بي)، كما أن رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي ليس راهبًا في كنيسة ولكنه ممثل كوميدي بالأساس قبل أن يكون رئيسًا، ومن الطبيعي أن يوظف كنائسه في مواجهة الغزو الروسي، لكن المشكلة الرئيسية هي انقلاب الكنائس على مبدئها المعلَن “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، ثم يصدّعون رؤوسنا بالحديث عن الفصل بين الدين والسياسة، ألم أقل: إنهم يخدعوننا؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان