عوالم يسري الجندي.. “سعد اليتيم” والسيطرة بالاقتصاد

عندما يستدعي المبدع تراثه الشعبي في لحظة تاريخية فإنه يلتقط لحظة من تراثه ويضعها في إطار درامي وفني محاولًا إعادة قراءته، وإلقاء ضوء على بؤرة فيه من أجل إنارة الحاضر، يصبح الاستدعاء هنا مُلحًّا في ضمير الكاتب وضمير أمته، خاصة إذا كان المبدع مهمومًا بالتاريخ والتراث والمستقبل.
وكان الهمّ الوطني والقومي هو محور حياة الكاتب المصري والعربي يسري الجندي، وعندما ننظر في تاريخ إبداعه نجد أنه قدّم تسعة أعمال تاريخية أبرزها (عبد الله النديم) (خيبر) (سقوط الخلافة) (جمهورية زفتى) (الطارق)، وتلك الأعمال ستكون محور الكتابة القادمة.
قدّم الكاتب الكبير يسري الجندي تسعة أعمال فنية مستوحاة من التراث الشعبي العربي والمصري هي: (جحا المصري) إنتاج 2002 (السيرة الهلالية) 1997 ثلاثة أجزاء (على بابا) 1995 (معروف الإسكافي) 1993 (السندباد) 1994 (علي الزيبق) 1985 (سعد اليتيم) سينما 1985 (ياسين وبهية) 1982 (المغنواتي) سينما 1979.
وفيلم (سعد اليتيم) إنتاج 1985 من إخراج أشرف فهمي، قصة ومعالجة سينمائية يسري الجندي، سيناريو وحوار عبد الحي أديب، والبطولة المحورية في القصة الشعبية لعدد من كبار نجوم السينما المصرية: أحمد زكي، محمود مرسي، كريمة مختار، نجلاء فتحي، فريد شوقي، وتوفيق الدقن.
التكيّة.. الصراع الأبدي
التكيّة هي قلب الحارة، ويقطنها المتصوفون، وصراع السيطرة عليها هو محور العمل الفني (سعد اليتيم)، وجاءت التكيّة في أعمال أديب مصر العالمي نجيب محفوظ وبخاصة سلسلة الحرافيش، فكانت رمزًا للتقوى والنجاة والحب الإلهي.
وقد استدعى يسري الجندي عالم الحرافيش في قصة سعد اليتيم الشعبية، وفي مشاهد القصة الأولى يقتل بدران شقيقه فاضل فتوّة الجمالية العادل وزوجته، ويهيّئ القدر لابنه (زكريا) مَن يجعله يهرب مِن المقتلة على يد الفتوّات بزعامة عمه (بدران)، وتبدأ الأحداث بمحاولة (موسى) السيطرة والحصول على التكيّة، مدفن جدّه الكبير، ومحاولته تجميع أهله من الشتات ليقطنوا في التكيّة قلب الجمالية وروحها (في دلالة لا يخطئها العقل وإشارة إلى الصراع العربي الصهيوني).
التجارة والاقتصاد وسيلة موسى
يسيطر موسى على أقوى فتوات القاهرة عن طريق المال، ويضع الإنجليز المحتلين للبلاد في ذلك العصر تحت أمره بالرشاوى، يستطيع موسى من خلال التجارة أن يستبعد من الصراع أقوى الفتوات (الهلباوي) ويبقى بدران (عم سعد) أسير النبّوت، ولكن الهلباوي بمساعدة موسى يستطيع شراء الجميع من حوله، فقد حوّل جميع رجاله إلى التجارة، وتستمر محاولة موسى للحصول على أرض التكيّة.
قدّم يسري الجندي قصة (سعد اليتيم) مرتين، الأولى في السينما والثانية كانت تلفزيونيًا في مسلسله (نسيم الروح) عام 2008، وجعل محور العملين القضية الفلسطينية.
لقد استطاع (موسى) أن يستبعد أقوى رجال المحروسة عن طريق التجارة، فحسب (موسى) أن التجارة هي وسيلة السيطرة على الجميع، وأن المال هو القوة البديلة للنبّوت، وأمام إغراء المال والمديونيات (القروض) يقع الجميع تحت السيطرة.
الدفاع من أهل التكيّة
تتوالى الأحداث، يشبّ سعد (زكريا) ويعيش مع (كرامات) صاحبة التكيّة، يقع في غرام ابنة عمه (بدران) وهو لا يدري أنها ابنة عمه، يؤمن بأنه ورجال التكيّة لا بد أن يعملوا ولا يركنوا إلى العطايا، فيتعلم الحدادة، يد تعمل خير وأفضل من يد لا تعمل، يقع (بدران) في عدة مشاكل نتيجة صراعه مع (الهلباوي) المُسيطَر عليه من (موسى)، لكن (سعد) بقوته وشهامته ينقذه منها، يهاجم موسى ورجال الهلباوي التكيّة، ويطردون أهلها، ويكتشفون علاقة (بدران) و(سعد)، فسعد هو زكريا ابن أخيه الذي قتله بدران منذ ثلاثين عامًا.
يصمم سعد على أن يقوم أهل التكيّة بالدفاع عنها، ويبدأ في تعليمهم كيفية التعامل مع النبّوت (السلاح) من أجل استرداد التكيّة، والخلاص من موسى وسيطرته على المكان المقدس، وتنتهي القصة الجديدة لسعد اليتيم التى كتبها يسري الجندي حين يعترف (بدران) بجريمته التي عذبته سنوات لابن أخيه، ويقتله (الهلباوي) ويتخلص سعد من الفتوات، ولكن يظل الصراع حول التكيّة.
علي الزيبق.. ياسين وبهيّة
في مسلسل (علي الزيبق) يستخدم يسري الجندي القصة الشعبية (ملاعيب علي الزيبق) الذي يقاوم (سنقر الكلبي) مقدّم درك مصر الذي يفرض الجباية على المصريين، ويمارس عليهم كل أصناف القهر والاستبداد والظلم، لكن علي الزيبق يستخدم ألاعيب الشطار والعيارين في المقاومة لينتصر على سنقر الكلبي ورجاله.
أما في مسلسله (ياسين وبهيّة) فيضع الحكاية الشعبية في إطار مصري اجتماعي تدور أحداثه حول الإقطاع وممارساته، تجويع الفلاحين أصحاب الأرض والاستيلاء على مقدّراتهم، وطردهم من أراضيهم، حكايات الظلم حين لا يجد الإنسان قوت يومه وهو صاحب الأرض والوطن، وهو ما قدّمه يسري الجندي أيضًا في واحد من بواكير أعماله الدرامية (أنهار الملح) إنتاج عام 1977، في مسلسل من أوائل أعمال النجم أحمد زكي.
هكذا يعيد يسري الجندي قراءة التراث الشعبي، وتقديمه بما يناسب واقعًا جديدًا يعايشه أبناء الوطن، فالمبدع لا يستلهم التراث للتسلية، أو لمجرد أن تكون أغنية على ربابة في موالد شعبية، وهكذا كانت قراءة هذا المبدع الكبير الذي رحل الأسبوع الماضي.
وفي عالم يسري الجندي التاريخي، ربما تكون رحلتنا القادمة إن شاء الله.