ما مستقبل أوربا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا؟

هناك الكثير من الأسئلة التي يمكن أن يساهم البحث عن إجابات حقيقية لها في استشراف مستقبل أوربا، ومن أهمها: لماذا اختار بوتين هذا التوقيت ليشن عدوانه على أوكرانيا؟

دعك من التفسيرات السطحية التي تدخل في إطار الدعاية الغربية القائمة على الكذب والتدليس، التي تتهم بوتين بأنه قد أصابه الجنون.. فهذا كلام لا يقبله عقل.

لقد كان بوتين يخطط منذ سنوات، لكنه كان ينتظر الفرصة المناسبة، التي جاءت عندما أدرك أن أوربا تمر بمرحلة ضعف، وأنها لن تستطيع أن تصمد أمام قوته الصلبة.

ولقد اختبر بوتين أوربا عندما تعامل باحتقار مع الرئيس الفرنسي ماكرون، ووجه له إهانات دون أن يجرؤ الأخير على الرد.

لقد أدرك بوتين أن أقصى ما يمكن أن تفعله أوربا هو تطبيق العقوبات التي ستكون آثارها أكثر سلبية على أوربا، وأن تلك العقوبات ستساهم في زيادة أزمة أوربا الاقتصادية.

أوربا الخائفة

إن أوربا أصبحت تدرك عجزها عن مواجهة تهديد خطير، فبوتين يمتلك الأسلحة النووية ويمكن أن يستخدمها، وهو احتمال بعيد لكنه يجب أن يؤخذ في الحسبان خاصة أن أوربا استبعدت تهديدات بوتين بغزو أوكرانيا، وقد ظهر لها خطؤها وقلة حيلتها.

إن غزو بوتين لأوكرانيا يوضح فشل المشروع الأوربي خاصة في قضايا الدفاع والأمن والتعاون في مواجهة المخاطر، إذ إن البرلمان الأوربي لم يستطع أن يتوصل إلى اتفاق حول البرامج العسكرية، فظلت تلك البرامج في إطار التفكير بالأمنيات، ولم تستطع أوربا أن تقوم بأقل الأعمال وهو توفير السلاح للأوكرانيين.

ومن المؤكد أن هناك حالة هلع ورعب تجتاح أوربا، وتشل قدرتها على اتخاذ القرارات، أو الرد على بوتين بإجراءات تتناسب مع ما تتعرض له أوربا من تهديد، وكل آمال أوربا أصبحت تتعلق بقدرة الأوكرانيين على المقاومة، والمطالبة بإنهاء أعمال العنف، والبحث عن حلول دبلوماسية عن طريق المفاوضات.

الاعتماد على الغاز الروسي

تدرك أوربا خطورة اعتمادها على الغاز الروسي الذي تدفع 700 مليون يورو يوميا للحصول عليه. فهل تستطيع أوربا أن تقلل اعتمادها على هذا الغاز كما طالب به البرلمان الأوربي؟! وما تأثير انقطاع امدادات الغاز الروسي على الاقتصاد الأوربي ومستوى معيشة المواطنين المرفهين في عواصم أوربا؟

إن أوربا لن تستطيع أن تحول كلماتها إلى أفعال، وبوتين يدرك ذلك، ويعرف جيدا مصادر قوته وتأثيره على اقتصاد أوربا ورفاهيتها، ويدرك أن دولا أوربية كثيرة لن تلتزم بقرارات مقاطعة روسيا لأنها ببساطة لا تستطيع ذلك.

يقول مايكل بريسندن: إن الغزو الروسي لأوكرانيا غيّر كل شيء في أوربا، وسوف يكون له آثار خطيرة على مستقبلها أمنيا ومجتمعيا، فالاتحاد الأوربي يتعامل مع الأزمة ببطء وبيروقراطية.

يضيف بريسندن جانبا مهما آخر هو أن فصل روسيا من نظام سويفت، وتجميد أرصدتها سيؤدي إلى الكساد في روسيا، لكن ذلك سيكون له تأثيره الخطير على الاقتصاد الأوربي، ومن الصعب أن تجد أوربا بديلا للغاز الروسي.

إنها حرب طويلة!

هذا يعني أن الحرب لن تنتهي بسيطرة روسيا على أوكرانيا، أو التوصل إلى حل سلمي، ولن تكون لها نهاية قريبة، وسوف تتطور آثارها الاقتصادية والإنسانية، وروسيا يمكن أن تتحمل تلك الآثار أكثر من الدول الأوربية.

إنها صدمة اقتصادية وإنسانية لا تستطيع أوربا أن تتحملها، وفي ضباب الحرب لا تستطيع أوربا أن ترى النتائج، أو تدرك خطورتها.. لذلك لا يمكن الاكتفاء بمتابعة أخبار الحرب وتقدم القوات الروسية، أو بطولات المقاومة الأوكرانية، فالأمر أكبر من ذلك، ولا يمكن التنبؤ الآن بالنتائج، لكن من المؤكد أنها ستغير أوربا، وأننا في بداية حرب طويلة، وهناك أسلحة كثيرة لم يستخدمها بوتين بعد، ولا أحد يمكن أن يتوقع ماذا يمكن أن يفعل!!

يقول جيمس لاندال –المراسل الدبلوماسي ل بي بي سي- إن الحرب يمكن أن تنتقل من الحدود الأوكرانية وتتوسع، فبوتين يمكن أن يعلن أن إمداد أوربا لأوكرانيا بالأسلحة عمل عدائي، وأن من حقه أن يقوم بالرد على الدول الأوربية التي توفر الأسلحة لأوكرانيا، ولذلك فإنه يمكن أن يقوم بإرسال قواته إلى  دول البلطيق -وهي أعضاء في حلف الناتو- مثل لتوانيا، وهذا سيشعل حربا خطيرة مع الناتو، فهذا الحلف يمكن أن يطبق المادة الخامسة من ميثاق التحالف العسكري التي تنص على أن الاعتداء على دولة من دول الحلف اعتداء على كل دوله، وبالتأكيد فإن ذلك سيشعل حربا عالمية ثالثة.

كما أن بوتين يمكن أن يستخدم أسلحته النووية إذا تعرض للهزيمة في أوكرانيا، وقد وضع بالفعل هذه الأسلحة في حالة تأهّب.

ولكن أين الحل الدبلوماسي؟!

هذا يمكن أن يفسر لهفة أوربا للتوصل إلى حل دبلوماسي، ولقد عملت تركيا للتوصل إلى هذا الحل عن طريق الدعوة لاجتماع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا، ولكن هل هناك احتمال بأن يتحقق ذلك؟

إن كل شيء ممكن مهما كانت صعوبته، والحل الدبلوماسي يمثل عملية إنقاذ سريعة لأوربا من كوارث قادمة.

يقول جيمس لاندال: “إن الأسلحة هي التي تتحدث الآن.. لكن الطريق إلى الحوار يظل مفتوحا”، وقد يجد الجميع في الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان وسيطا نزيها وحكيما يمتلك إمكانيات التفاوض وأدواته، وقد يكون وجود تركيا خارج الاتحاد الأوربي مصدرا لقوتها وقدرتها على أن تكون وسيطا يعمل لحماية أمن العالم، وإنقاذه من الكارثة.

وبالتأكيد فإن روسيا وأوربا ستشعران بفضل تركيا عليها، فالحرب يمكن أن تؤدي إلى نتائج خطيرة في كل دول العالم، وهناك مؤشرات على أن بوتين يمكن أن يقبل الحل السلمي إذا شعر بأنه يمكن أن يحقق بعض أهدافه مثل منع أوكرانيا من الانضمام لحلف الناتو، والخروج بما يحفظ ماء وجهه، كما أن الرئيس الأوكراني صرح بأنه لم يعد يريد أن ينضم لحلف الناتو الذي لم يستطع أن يتصدى للعدوان الروسي.

بالرغم من صعوبة هذا السيناريو فإنه يظل وسيلة إنقاذ لأوربا من أيام أكثر سوادا من الحرب العالمية الثانية.

إنه صراع دموي!

رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون حذر من التكلفة الإنسانية للصراع، ووصفه بأنه صراع دموي، وقال إن بوتين لا يفكر بشكل منطقي، ولا يرى الكارثة القادمة التي يمكن أن تحل بروسيا؛ وذلك لأن أمريكا وبريطانيا ستفرضان المزيد من العقوبات على روسيا منها منع الشركات الروسية من التجارة بالدولار والجنيه الإسترليني، وذلك يشكل ضربة قوية لروسيا.

وتوقع جونسون أن يؤدي الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تقوية الناتو وليس إضعافه.

وتصريحات جونسون تعني التصعيد، والتقليل من إمكانيات التوصل إلى حل دبلوماسي.

لكن ذلك يشير إلى فقر الفكر الأوربي، وعدم الحكمة، وقلة القدرة على مواجهة الأخطار القادمة، فجونسون توقع عدم غزو روسيا لأوكرانيا اعتمادا على ما أخبره به الرئيس الأمريكي بايدن من أن المخابرات المركزية الأمريكية نفت أن تكون روسيا تخطط لغزو أوكرانيا.

لكن جونسون الآن يقول: “إن هذه أكبر حرب تشهدها أوربا منذ عام 1945، وإن صدى هذه الحرب سيسمع في كل العالم”.

فهل استمع جونسون لتحذير وزيرة داخليته التي قالت: “إن هناك خطر هجوم سيبراني على بريطانيا، وإن هذا الهجوم يمكن أن يؤثر على البنية الأساسية لوسائل الإعلام والاتصالات السلكية والطاقة والحكومة”.

ونحن لن نتوسع في هذا المقال في الحديث عن الأخطار السيبرانية، بل سنخصص لها مقالات قادمة.

إن الأخطار السيبرانية يمكن أن تدمر الاقتصاد العالمي، لكن ذلك يشكل جزءا من المخاطر التي تهدد أوربا، ويمكن أن تؤدي إلى تفككها وإضعافها، وإثارة الحروب بينها، فالعداء التاريخي بين دول أوربا يمكن أن ينفجر فجأة، والذاكرة الجمعية للكثير من الشعوب الأوربية -خاصة الشعب الألماني- مشحونة بذكريات مريرة تثير الكراهية لكل الأوربيين، والعقوبات الاقتصادية على روسيا يمكن أن تؤثر بشكل سلبي في الاقتصاد الألماني.

وهذا الصراع الجديد أتاح لألمانيا إمكانيات لإعادة بناء جيشها وتسليحه، وأوربا تدرك مخاطر ذلك خاصة بعد تزايد شعبية الاتجاهات اليمينية في أوربا، وتزايد فرص وصولها إلى الحكم.

تهديد الأمن الغذائي الأوربي

يقول وزير خارجية أوكرانيا: “إن الحرب في أوكرانيا تشكل أزمة لأوربا كلها، فسوف يندفع أكثر من خمسة ملايين لاجئ أوكراني إلى أوربا هربًا من نيران الغزو الروسي، كما أن هذا الغزو سيمنع إمداد أوربا بالحبوب التي تأتي من أوكرانيا وروسيا، وهذا يهدد الأمن الغذائي الأوربي”.

ويضيف وزير الخارجية الأوكراني أن “روسيا وضعت نهاية للنظام العالمي، وفتحت الباب أمام فترة من عدم الاستقرار العالمي، ونهاية فترة السلام في أوربا”.

كما أن بوتين وفريقه يمتلكون خبرة في تقييم المخاطر، وقد أدركوا أن أوربا لا تستطيع أن تواجه الأزمة، وأنها ستفشل في مواجهتها. لذلك فإنه يمكن أن يحقق بوتين كل أهدافه التوسعية دون أن تجرؤ أوربا على مواجهته، وسيكتفي قادة أوربا بمشاهدة الحرب على شاشات التلفزيون.

ولقد أصبحت كل شعوب أوربا تدرك ضعف قياداتها، وعدم قدرتها على اتخاذ قرارات حاسمة لمواجهة المخاطر، وهذه الشعوب لا تريد الحرب، وقادة أوربا يعرفون هذه الحقيقة التي توضحها استطلاعات الرأي العام، لذلك لن تتجاوز ردودهم فرض عقوبات على روسيا.

وضعف أوربا سيغري روسيا بالمزيد من التوسع والعدوان على دول أوربية أخرى، وروسيا يمكن أن تجد البدائل التي تساندها اقتصاديا مثل الصين.

من المؤكد أن الأزمة ستغير أوربا، وستضرب أمنها واستقرارها، وستؤدي إلى ضعفها وتفككها، وانهيار اقتصادها، وأمريكا سوف تتخلى عنها لأنها لا تجرؤ على أن تخوض حربا جديدة.

فهل يؤدي كل ذلك إلى بناء نظام عالمي جديد؟! سنحاول تقديم إجابة عن هذا السؤال في مقالات قادمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان