قبل أن تضع الحرب أوزارها: عالم جديد يتشكّل.. فأين نحن؟

اجتماع مجلس الأمن عقب العدوان الروسي على أوكرانيا

قبل أن تضع الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها، ظهرت في الأفق ملامح عالم جديد يتشكل على أنقاض عالم كان يوصف بـ”الجديد” حتى أيام قليلة خلت، قوى تزداد علوًّا وأخرى تبحث عن دور، وثالثة ربما تتوارى أو حتى تختفي، السؤال المهم بين كل ذلك هو أين سيكون موقعنا نحن -العرب والمسلمين- في هذا العالم الجديد جدًّا؟!

بطبيعة الحال لا نستطيع تحديد شكل العالم الجديد تمامًا، فلا تزال الحرب مشتعلة، تصر روسيا على الوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف لتحسم الأمر تمامًا، ولتفرض شروط الاستسلام على حكومتها، وسط مقاومة واضحة من القوات والشعب الأوكراني. وفي الوقت نفسه تتواصل جلسات التفاوض السياسي بين الدولتين في بيلاروسيا وعين وأذن المفاوضين على التطورات على الأرض، هي إذن مفاوضات لاستهلاك الوقت، فالسيف أصدق أنباء من الكتب، وقبل كل ذلك وبعده حرص أوربي أمريكي على دفن غرور بوتين في الرمال الأوكرانية، وترقب صيني لما يجري.

ألمانيا تستعيد قوتها

قبل ان تنتهي الحرب أعلنت ألمانيا عن تخصيص ميزانية ضخمة تجاوزت 100 مليار يورو لتحديث جيشها، وهذا أمر لو تعلمون عظيم كانت ترفضه من قبل، فألمانيا التي التزمت بنزع سلاح جيشها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والتي سمح لها الحلفاء المنتصرون بإعادة تسليح جيشها تحت سقف منخفض في العام 1955، ويحتل جيشها حاليًا المركز السادس عشر عالميًّا، قادرة أن تقفز بهذا الترتيب إلى المرتبة الثانية أو الثالثة في وقت وجيز، خاصة حين يقر برلمانها مطلب مستشارها أولاف شولتس بزيادة النسبة المخصصة للدفاع من 1.5 إلى 2% سنويًّا من إجمالي الناتج المحلي (4 تريليونات دولار)، وهو أمر محل قبول كبير ظهر في التصفيق الحار والمتكرر لنواب البوندستاج خلال كلمة شولتس.

هذا يعني أن جيشًا أوربيًّا ضخمًا سيظهر للوجود قريبًا، وقد تتلوها فرنسا ودول أوربية أخرى بزيادة مخصصات الدفاع والتسليح في ميزانياتها، بل قد نشهد جيشا أوربيًّا موحدًا لطالما حلم به قادة القارة العجوز ليكون قادرًا على حماية قارتهم ودولها في مواجهة أي أعاصير عسكرية لا تسعفهم فيها حماية واشنطن كما هو الحال في أوكرانيا حاليًا. هذا يعني أيضًا أن أوربا التي شعرت بالخطر من الحرب الحالية ستسعى لتكون قوة عسكرية كبرى ذات قرار مستقل، وإن لم يكن متصادمًا بالضرورة مع واشنطن.

عودة الجيش الألماني القوي الذي أرعب العالم في الحرب الكونية الثانية، قد يرافقه تطوير الجيش الياباني -الذي يحتل حاليًا المركز الخامس عالميًّا- ليكون قادرًا على مواجهة الصين التي تسعى لقيادة العالم، وهذا يعني أن الجيوش القديمة التي كانت مرعبة للبشرية، ستعود إلى تبوّء مركز الصدارة مجددًا بما يعنيه ذلك من تراجع لقوى أخرى، لكن تقوية هذين الجيشين سيتم بتوافق وترتيب مع الولايات المتحدة التي تستعد لمواجهة “مؤجلة”مع الصين، بعد الانتهاء من روسيا.

نحو حلف روسي صيني

روسيا من جهتها تسعى لبناء تحالف استراتيجي مع الصين التي تستجيب ببطء يتناسب مع ثقلها الديموغرافي، ومصالحها الذاتية، التي من بينها استعادة تايوان خارطتها كما فعلت روسيا مع إقليم دونباس الأوكراني، ولو خرجت روسيا من حربها الحالية منتصرة، ولو أنها نجحت في صناعة هذا الحلف الاستراتيجي مع الصين -الذي قد يضم أيضا كوريا الشمالية- فإنها ستشكل حلفًا عسكريًّا وسياسيًّا يكافئ الناتو (3 قوى نووية شرقية مقابل 3 قوى نووية غربية). أما في حال هزيمة بوتين في حربه الحالية ولو بعد حين فإن ذلك سيُخرج روسيا من المعادلة الدولية، وليس مستبعَدًا في تلك الحالة أن تحكمها حكومة أكثر قربًا من الغرب على طريقة بوريس يلتسين من قبل، لكن الصين ستظل محافظة على قدراتها الذاتية القوية، ليظل تحديها للولايات المتحدة مستمرًّا.

عودة أوربا القوية المستقلة عن القرار الأمريكي لن يكون مصدر سعادة لنا، لأنها ستعود محمّلة بأثقال إرثها الاستعماري القديم الذي ستسعى بضغط من فائض قوتها الجديدة لاستعادته بطرق ملتوية، وقوة روسيا ليست مصدر سعادة أيضًا بحكم أحلامها الإمبراطورية، وحتى الصين أيضًا، الدولة الوحيدة من بين الأقطاب الكبرى المنتظرة هي اليابان التي ليس لها تاريخ سلبي تجاه منطقتنا وشعوبنا، ولكن مشكلتها أنها بعيدة جغرافيًّا، وإن كانت أكثر المستهلكين للنفط العربي.

غياب الديمقراطية يُفقدنا الفرصة

في عالم جديد -كهذا- قيد التشكيل نعود إلى سؤالنا: أين نحن؟ يمثل العالم العربي والإسلامي ربع سكان العالم (مليار و800 مليون نسمة)، و10% من الاقتصاد العالمي (دولتان فقط ضمن مجموعة العشرين الكبار هما تركيا والسعودية)، وتمتلك إحدى دوله (باكستان) القنبلة النووية، لكن مشكلة هذا العالم هي غياب مشروع موحد، كما هو الحال بالنسبة للصين أو روسيا، ولا تربطه رابطة وحدوية قوية مثل الاتحاد الأوربي، والدولة الوحيدة فيه التي تمتلك مشروعًا هي تركيا، ولكنه مشروع طوراني قومي، وإن كانت قاعدته الأساسية هي مجموعة دول إسلامية ناطقة بالتركية، ويمكن أن يتوسع لاحقًا. وحتى المشروع القومي العربي الذي جمع عديد الأقطار العربية في الستينيات لم يعد قائمًا اليوم، وأصبحت كل دولة تتحرك لمصلحتها بعيدًا عن البلدان الأخرى، وفي الحرب الأخيرة وقفت غالبية الدول العربية والإسلامية على الحياد بدرجة كبيرة، مضطرة أو غير مضطرة، فتركيا الأكثر اقترابًا من مسرح العمليات أعلنت رفضها للغزو لكنها أكدت مواصلة علاقاتها المتكافئة مع الطرفين (روسيا وأوكرانيا)، وحدها الإمارات التي راهنت على الحصان الروسي في هذه الحرب، وهو رهان محفوف بمخاطر شديدة.

غياب الديمقراطية في غالبية بلداننا العربية والإسلامية سبب رئيسي لغياب مشروع جامع لها يعبّر عن تطلعات شعوبها التي ستبقى رهنًا لنزوات حكامها المستبدين، الذين يحددون مواقفهم في القضايا الدولية بناء على مصالحهم الذاتية، أو حسب حجم الضغوط التي يتعرضون لها خارجيًّا، وبالتالي فرغم ما في التحولات العالمية المرتقبة من فرص سانحة لنا -عربًا ومسلمين- لننتزع مكانة لائقة تحت الشمس، فإن حالة حكامنا وأيضًا نخبنا لا تشي بإمكانية استثمار هذه الفرصة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان