ليس بالحرب وحدها نصير لاجئين

إذا لم تكن أحداث السنوات الأخيرة في العراق وسوريا وأفغانستان واليمن وليبيا ومصر وكشمير وميانمار كافية لتذكيرنا بأننا جميعا لاجئون في هذا العالم، فلا بد أن تكون الأحداث في أوكرانيا قد أيقظتنا على هذه الحقيقة.
الأمر ليس محض خيال، ففي هذا العالم المتقلب الذي لا ندري كيف تؤول الأمور فيه، قد يصبح المرء مواطنًا ويمسي لاجئًا، يضاف إلى ذلك أن كل واحد فينا تقريبًا يحمل داخله -في ماضيه القريب أو المتوسط أو البعيد- حالة لجوء أو هجرة ما.
من جانب آخر، أليس عالمنا بجوهره الخاص يجعلنا جميعًا نعيش في غربة كبيرة؟
في هذا السياق، يمكن اعتبار الحداثة حركة اجتماعية تجعل الجميع مهاجرًا في جانب ما من جوانبها. هذا الاعتبار أو التعريف يشير إلى الجانب المركزي لظاهرة الهجرة التي حدثت على نطاق عالمي مع الحداثة لمجتمعنا المعاصر في المقام الأول.
وفي الواقع، نجد أن الحقيقة التي تؤطر العالم الذي نعيشه اليوم هي الحركية المكوكية على نطاق عالمي. ونتيجة لذلك نرى أن جزءًا كبيرًا من سكان العالم الآخذ في التزايد أصلًا يهاجرون من بلادهم التي ولِدوا فيها لأسباب اقتصادية أو تعليمية -أو لغير ذلك من أسباب- نحو بلدان أخرى، وجزء كبير أيضًا من هؤلاء أنفسهم لا يستقرون في بلد المهجر الأول، بل يتركونه للهجرة نحو وجهة أخرى، لدرجة أنه يمكن القول إن هذا العالم الذي نعيش فيه يسير نحو وضع لا يتاح للإنسان فيه أن يموت في المكان الذي ولِد فيه.
بالطبع لا يعبّر هذا الوضع سوى عن المنظور الجغرافي للحركية التي تحدثنا عنها. ومن خلال هذا الجانب شهد تاريخ البشرية على امتداده العديد من الهجرات الكبرى والتنقلات الاجتماعية الكبيرة والحروب والتكتلات المجتمعية القوية، وكل ذلك عزّز الحركية الاجتماعية للناس.
واليوم يمكننا الحديث عن حقيقة أن هذه الحركية ترسخت لدرجة أتاحت لها تشكيل معالم البنية الاجتماعية والوضع التاريخي. لكن في المقابل، علينا ألا ننسى أن كون الشخص لا يموت في مكان ولادته هو أمر قديم قِدم البشرية ذاتها، ويمثل جانبًا من أكثر المواقف الحقيقية للوجود البشري. ومع ذلك، حينما نتحدث عن الحداثة التي تُحوّلنا إلى أجانب وغرباء، فإننا نتحدث هنا عن وضع مختلف قليلًا.
البقاء دون وطن
لا شك أن الهجرة كحدث منح بنفسه محتواه الحقيقي للحداثة، تاركًا الناس بمفردهم بعد أن انفصلوا عن جذورهم وأرضهم وزمانهم ومكانهم، فقد أحدثت الحداثة بنفسها تغييرًا جذريا في طبيعة الهجرة. ويمكن التعبير عن هذا التغيير في وضع ثقافي معيّن يتعثر فيه التمييز بين المهاجر والمواطن الأصلي، بحيث لا يكون لهذا السؤال إجابة ذات مغزى ضمن هذا الوضع الثقافي.
بالطبع، فإن حالة البقاء دون وطن/أرض بسبب اللجوء تحتل مكانة خاصة في كل هذا النشاط الحركي/التنقلي. مما لا شك فيه أنها تجربة تتسم بألم شديد لدرجة أنها تصل إلى هذا التعثر الذي يمكن اعتباره إعادة تأهيل من زاوية ما. والغرض من الإشارة إلى الوضع المشترك والتجربة الإنسانية هنا هو تنشيط التعاطف مع وضع طالبي اللجوء.
على صعيد آخر، حينما يكون اللاجئ تحت حالة وعي مستمرة تذكّره بأنه “غريب/أجنبي” في البلد الذي لجأ إليه، ولو من قِبل جزء يسير من الناس، فإن ذلك يدفعه إلى العيش مع شخصيتين داخل نفسه طوال الوقت. مثل ما رسمه “فرانز فانون” في (بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء) حول الزنوج في نظام الفصل العنصري. وتهجير الناس من أرضهم هو شيء شبيه بهذه الصورة في الواقع. ليس ذلك عبارة عن الانتقال من مكان إلى آخر، بل البقاء دون أرض. وطريقة التعويض عن ذلك هي سياسة فاضلة بلا شك، أن ترى اللاجئ مهاجرًا فتكون له ناصرًا.
هناك كثيرون ممن يعيشون أوضاعًا مأساوية أكثر بكثير مما نشاهد ونعلم، منبوذون في الأرض، يواجهون مصيرًا صعبًا ولا خيار آخر حيث لا أحد يسمعهم، لكنهم يواصلون حياتهم في تلك الظروف السيئة فقد استنفدوا جميع آمالهم في هذه الإنسانية.
نتحدث عن مئات الآلاف من سكان ميانمار المسلمين في آسيا، الذين أُخرِجوا من ديارهم لمجرد أنهم مسلمون، ضمن سياسة فصل وتمييز واضحة، ذوي بشرة سوداء، ضعفاء مشردين، بلا حول ولا قوة ولا أرض ولا ديار ولا منزل ولا لباس ولا مأوى ولا ظهير.
مليون شخص من الروهينغيا طُردوا من ديارهم نتيجة الهجمات والاضطهاد بسبب الدين، ولم يُمنحَوا الجنسية في بلدهم الذي يعيشون فيه منذ عام 1970 لأنهم مسلمون فقط. وبينما قُتل منهم 40 ألفًا أُحرِقوا وهم أحياء، قضى عشرات الآلاف منهم قتلًا بالأسلحة النارية والسكاكين، حتى الأكواخ التي لاذوا بها أُحرِقت، هذا فضلًا عن اغتصاب نسائهم وأطفالهم.
مستوى الإبادة الجماعية
هذه الهجمات التي نتحدث عنها ليست وليدة اللحظة، بل متواصلة منذ عام 1970، لكنها في السنوات الأخيرة وصلت إلى مستوى الإبادة الجماعية. وحتى الروهينغيا الذين اضطروا للجوء إلى دول مثل باكستان وبنغلاديش في السبعينيات لم يحصلوا على شهادة مواطنة حتى يومنا هذا، بل لا يزالون مهددين بالترحيل على الرغم من أنهم يكدّون ويعملون أكثر من أي أحد آخر.
لسوء حظهم ليس لديهم إخوة في الدين يحتضنونهم ويقبلونهم انطلاقًا من مبدأ “إخوتنا في الدين”، كما لا يوجد لديهم أواصر عرقية تدفع إخوتهم في العرق للدفاع عنهم.
لذلك، أعتقد أننا بحاجة للبدء في التفكير بحالة اللجوء الأصعب والأقسى. ولذا علينا أن نكون شاكرين من جهة وأن نكون على حالة من الوعي بما يسببه النظام العالمي القائم من حالات لجوء لا تتوقف، وكذلك حيال مفاهيمنا التي تميز بين اللاجئين وآثار ذلك على إنسانيتنا.