ماسبيرو.. ذنب كاميرا الكورنيش في ثورة يناير

تقترب احتجاجات وتظاهرات العاملين في (الهيئة الوطنية للإعلام) من منتصف شهرها الثالث، ولا تزال ردود فعل الإدارة التجاهل التام لما يحدث داخل البهو الرئيسي في المبنى العريق والقنوات الإقليمية.
حاولت الإدارة إيقاف التظاهرات بشتى الطرق، عبر إيقاف العشرات من الإعلاميين والعاملين، وفصل إحدى الصحفيات من المجلة التي تصدرها الهيئة، وفتحت التفاوض مع بعض المتظاهرين في محاولة للتفتيت، وعندما اكتشف المفاوضون خدعة التسويف أعلنوا الاعتذار عن استكماله. وعادت الدعوات بقوة لمواصلة التظاهر، مع فتح ملفات الإهمال في مقدّرات الهيئة وممتلكاتها عبر الوثائق والبث المباشر من مؤسسات الهيئة المتعددة مثل شركة صوت القاهرة أو مخازن مسرح البالون أو مركز الإرسال الرئيسي في (أبو زعبل) بمحافظة القليوبية.
لمصر.. لا لماسبيرو
لم يكن رد فعل إدارة ماسبيرو مفاجئا لي، فقد أمضيت من عمري 30 عاما في الهيئة، عايشت إدارات لا تُحصى، أعرف جيدا وسائلهم وأدواتهم لمواجهة الاحتجاجات والتجمهر، وما سبق هو الممارسات نفسها التي كانت تتم، لكن المفاجأة لي كانت رد فعل الشعب والطليعة المثقفة والأحزاب السياسية تجاه ما يحدث، رغم كونه يخرج من أهم هيئة إعلامية مصرية.
حدثني كاتب كبير عن هذا اللغز مشيرا إلى ما حدث أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حين استقرت كاميرات ماسبيرو على لقطة ثابتة تصور كورنيش النيل ولم تتطرق إلى ما يحدث في الميدان، وقال الكاتب الكبير إن ماسبيرو هو مبنى النظام وأتباعه وإنه دائما في حضن السلطة، أثارني تعبير المثقف الواعي الذي اختصر تاريخ الإذاعة والتلفزيون بمصر في تلك اللقطة العابرة، وعلى غرار كتاب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذي أصدره عام 1974، بعنوان (لمصر لا لعبد الناصر) معددا ما تم إنجازه في العهد الناصري بالأرقام وبالمصادر الغربية، قررت أن أقدم كشف حساب لماسبيرو أيضا بالورقة والقلم.
بداية، لا بد أن نقر ونعترف بأن الهيئة الوطنية للإعلام (اتحاد الإذاعة والتلفزيون سابقا) هي إعلام الدولة المصرية منذ نشأته عام 1960، ويخضع هذا المبنى لسيطرة الدولة، واتساع أفقه أو ضيقه يأتي بحسب القائم بأعمال الوزارة ورئيس الهيئة، لذا لم يكن أبدا صيغة واحدة.
علينا أن نقر بأنه في لحظات معينة من التاريخ لا يصبح قرار ماسبيرو هو قرار الإعلاميين فيه، ظهر ذلك بوضوح عام 1956 في العدوان الثلاثي مع الإذاعة، وفي هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 (ما زلنا نتذكر البيانات التي ننسبها خطأ إلى الإذاعي أحمد سعيد مع أنه كأن يقرأ بيانات قادمة من القيادة العامة للقوات المسلحة وقد تراجعت تلك البيانات بعد معرفة الحقيقة ولكن بقي أحمد سعيد يشحن للمقاومة دون استشارة أحد.. حسب رواية الإذاعي الكبير سيد الغضبان)، وفي أكتوبر 1973 كان ماسبيرو تحت قيادة الشؤون المعنوية.
وشاهدنا هذا أيضا عام 1977 أثناء انتفاضة يناير، وفي فبراير 1986 خلال أحداث الأمن المركزي (سُمح في ذلك الوقت لكاميرات القناة الثالثة بالنزول إلى الشارع بقرار من مدير القناة الوليدة بالاتفاق مع وزير الإعلام)، وفي يناير 2011 نزلت القناة نفسها إلى الشارع وكنت شاهد عيان، ولكن لم يُسمح لها بالبث وذهبت الشرائط إلى مكتب وزير الإعلام ولم يكن لإعلاميي ماسبيرو قرار في هذا الشأن، ولن يكون في أي لحظة يستشعر فيها النظام بالخطر، وعندما سُمح للإعلاميين بالحركة بعد يناير كان ماسبيرو ملتقى كل التيارات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بينما في الثورة لم يغب أبناء ماسبيرو عن الميدان، فلماذا يتحملون أخطاء لحظة تم تغييبهم فيها؟
أعداد العاملين وكذبة الديون
يحلو للبعض القول إن إعداد العاملين في ماسبيرو ضخمة وصلت قمتها عام 2011 حين بلغت 41 ألفا و400 إعلامي وموظف، في وقت كان عدد الشبكات الإذاعية ثماني شبكات وعدد المحطات 56 محطة إذاعية، وعدد المحطات التلفزيونية 26 محطة، وعدد مراكز الإرسال يتجاوز 300 (كان قطاع الهندسة الإذاعية أكبر القطاعات من حيث العدد بواقع 13 ألف موظف). وحينها كان قطاع الإنتاج الدرامي ينتج سنويا 50 مسلسلا نتذكرها جميعا، ولا ننسى أن هذا القطاع كان يقوم بتشغيل أكثر من ربع مليون مهني وفنان وممثل في مختلف المهن الدرامية (فلماذا لا نقول إن هذا كان كثيرا ببساطة لأن الإنتاج كان يكفيهم)، وعندما توقف الإنتاج بقرار إداري، أحسسنا بكثرة عدد المنتمين إلى القطاع (5 آلاف موظف). وهناك شركة صوت القاهرة التي لم تتطور بقرار إداري، فأصبحنا نشعر بالعاملين فيها لأنهم صاروا كتلة على مقاهي القاهرة، هل هذا ذنب إعلاميي ماسبيرو أم أصحاب قرارات الهدم والتعطيل؟
ديون ماسبيرو، تلك الذريعة التي يتفوه بها كل من يحاول كتم أصوات أبناء ماسبيرو، في مجلس الوزراء، وفي مجلس النواب، في الإعلام، ولو بحث أي منهم قليلا ليعرف لعرف. ديون ماسبيرو -أيها السادة- استدانها وزير الإعلام صفوت الشريف عام 1994 ليبني بها مدينة الإنتاج الإعلامي وينشئ النايل سات المصري، ثمانية مليارات جنيه من بنك الاستثمار، لا ذنب لإعلاميي ماسبيرو وموظفيه فيها، شركتان أُسِّستا بمنطق الاستثمار، ويُنفق سنويا فيهما آلاف الدولارات مكافآت لمجلسَيْ إدارتها، وسعر إيجار تردداتها أعلى سعر في المنطقة العربية، ولا تدفع رغم ذلك مستحقات البنك عليها، فلماذا يتحمل أهل ماسبيرو هذا الدين وتلك التصرفات من إدارات تستحل ما تفعل؟!
طاقات مهدَرة
أغلقت إدارة الهيئة قطاع الإنتاج الدرامي، ومن إنتاج 50 مسلسلا سنويا إلى لا إنتاج، ومن ستة استوديوهات لا تتوقف عن العمل طوال أيام العام إلى استوديوهات خاوية على عروشها، شركة صوت القاهرة طاقة معطلة، 15 وحدة إذاعة خارجية طاقة مهدرة، مئات من مراكز الإرسال، محطات تلفزيونية تُنتج ثقافة وفكرا وفنا وبرامج دينية وشعبية وتتجول في أنحاء الجمهورية طاقات مهدَرة.
تم سحب كل إمكانيات المؤسسة لصالح القطاع الخاص، استولت شركة (إعلام المصريين) على الترددات قصيرة المدى وطويلة المدى التي كانت حصرا لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، وصار نقل مباريات كرة القدم في أيدي القطاع الخاص، بعد أن كان ملكا حصريا لماسبيرو. هل باع الإعلاميون في ماسبيرو مقدّرات الهيئة أم كانوا ضحايا، كما كانوا ضحايا قرارات البث من كورنيش النيل أثناء الثورة، وكما كان أحمد سعيد ضحية بيان لم يكتبه ولم يكن مصدره، بل مصدره قيادة دولة؟!
وبعد.. هل ننسى تاريخ المبنى؟
هل يمكن لأي شخص ادّعاء أن ماسبيرو لم يقدّم طوال تاريخه دوره عدا لحظات محددة ضئيلة؟ لا أظن، هل ننسى ما قدمه كبار الإذاعيين من برامج مثل (حول الأسرّة البيضاء، زيارة لمكتبة فلان، كتاب عربي علّم العالم، غوّاص في بحر النغم، فنجان شاي، همسة عتاب، إلى ربّات البيوت، الفن الشعبي، كلمتين وبس)؟ هل يمكن أن ننسى ما قدمته القناتان الأولى والثانية والقنوات الإقليمية والقنوات المتخصصة من برامج وأفلام وثائقية وبرامج تعليمية وبرامج وندوات وقنوات خاصة بالعملية التعليمية كانت الأولى في المنطقة العربية؟
هل يمكن أن ننسى برامج خاصة عن كبار الكتّاب والسياسيين والمثقفين والأدباء؟ هل يمكن أن ننسى أن بهاء طاهر ومحمود مرسي وسامية صادق وسهير الإتربي وأمين بسيوني وجلال معوض وصالح مهران وعبد الوهاب قتاية وغيرهم المئات قدّموا لنا ثقافة وفكرا؟ هل يمكن أن ننسى إنتاج الإذاعة والتلفزيون من حفلات الموسيقى العربية وأضواء المدينة وليالي التلفزيون؟ هل يمكن نسيان إنتاج الإذاعة والتلفزيون من الأعمال الدرامية في رمضان على مدى 50 عاما؟ هل يمكن نسيان الرواد والشباب الذين خرجوا من ماسبيرو إلى معظم البلدان العربية يؤسّسون تلفزيونات ومحطات إذاعية؟ كل هذا هو تراث ماسبيرو، هل ننساه ولا نتذكر سوى لحظة الكاميرا الثابتة على كورنيش النيل، ثم نترك كل هذا التراث ليباع في سوق النخاسة؟!