مصر وأمان القمح.. ليست معضلة بل إرادة وخطة

هناك بطء سياسي، أو غياب إرادة، أو عدم فهم، أو بلادة، أو فقدان بوصلة تحديد أولويات، أو تغليب مصالح خاصة، ولا أود الزعم أن الأمر متعمد، وهو ترك ملف القمح -السلعة الإستراتيجية الأهم لمصر وشعبها واستقرارها الداخلي- بلا قرار جاد وحاسم في حتمية تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، ومغادرة دائرة الاستيراد المُكلِفة ماليًّا وسياسيًّا ووطنيًّا، والخضوع للبائع ومشيئته وشروطه، أو التأثر بالأحداث والتطورات والظروف والمتغيرات الدولية، كما هو حاصل اليوم من اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، ومصر أكبر المتضررين منها حيث تستورد منهما 80% من القمح سنويًّا.

مصر ليست بعيدة عن الأزمات الدولية، لأنها مرتبطة بالعالم ارتباطًا وثيقًّا، ليس لكونها جزءًا من القرية العالمية الواحدة فقط، وإنما بالأساس لأنها تعتمد في غذائها ودوائها وسلاحها وكل احتياجاتها على الاستيراد، والاعتماد على الخارج في الغذاء لوحده يقترب من 60%، ومن كان طعامه في أيدي غيره، فإن قراره لن يكون في يديه كاملًا، وسيادته ستكون رهنًا بإرادة من يضمن له التوريد، ومقولة الشيخ الشعراوي “من كان أكله من فأسه، كان قراره من رأسه” تفسير آخر لمعنى السيادة والاستقلالية الوطنية.

فمثلًا، مع بدء الحرب، وقفت مصر على الحياد، بسبب القمح والحبوب والزيوت النباتية التي تستوردها من روسيا وأوكرانيا، ولم تشأ القاهرة إغضاب أيّ منهما حتى تضمن استيراد احتياجاتها خلال الحرب، إذا كان ممكنًا، وكذلك بعدها، وسارت أيامًا على هذه السياسة، ثم تغيرت فجأة تحت الضغوط الأمريكية للتصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة، وبالتالي وقعت السلطة مضطرة تحت سندان مساندة أمريكا سياسيًّا، ومطرقة استيراد القمح من روسيا.

الشعور بالقلق

ومن تبعات أن يكون مصير طعامك بأيدي غيرك، أن تشعر القاهرة بالقلق لأن مخزونها يكفيها 4 أشهر فقط، والإنقاذ الطارئ في القمح المحلي، والتوقعات بأن تتسلم بين 5 و5.5 ملايين طن هذا الموسم، ولهذا قررت تسلم كل محصول القمح من الفلاحين، وزادت حافز التسليم ليكون سعر الأردب حسب درجة النقاوة على التوالي: 885 جنيهًا، و875 جنيهًا، و865 جنيهًا.

أكثر ما يشعرني بالخذلان أن بلادي هي أكبر مستورد للقمح في العالم، رغم أنها في الأصل ساحة زراعية خصبة منذ فجر التاريخ، وهي بلد القمح بشكل خاص، كما ورد في قصة سيدنا يوسف في القرآن، فقد زرعت القمح خلال السنوات السبع الرخاء، وخزنته في سنبله، فأكلت في السنوات السبع العجاف، ونجت من المجاعة، وأنجت كل من طلب القمح من جيرانها.

البلد الذي اختصه الله بهذه النعمة العظيمة، كان يجب أن يظل عظيمًا في إنتاج الحبوب، لا أن يعجز عن إطعام سكانه وهم مئة مليون مواطن، وهم نقطة في بحر أكبر بلدين بالعالم؛ الصين (مليار و440 مليون نسمة)، والهند (مليار و390 مليونًا)، وهما ليسا الأكثر استيرادًا للقمح، مصر تسبقهما بشراء نحو 12 مليون طن سنويًّا.

مصر قادرة على تحقيق الاكتفاء والأمان من محصول القمح، أو تقليل الاستيراد إلى أدنى حدّ، وصولًا إلى التوقف عنه نهائيًّا بأن تضع الحكومة سياسية وخطة زراعية ومالية جديدة بهذا الشأن يبدأ تطبيقها الموسم الجديد 2023.

والبند الأول في الخطة، هو توفر الإرادة والجدية في التنفيذ، إرادة الالتزام والنجاح بما لا يقل عن إرادة بناء الطرق والكباري والعاصمة والعلمين والمدن الجديدة والمساجد والكنائس الكبرى والأبراج الشاهقة والمدن الثقافية والرياضية الضخمة، وإقامة منتديات الشباب العالمية، ومؤتمرات الشباب الداخلية، والاحتفالات والمواكب والزينات الضخمة، هذه إرادة يقظة ونشطة وجاهزة ومهتمة بالتنفيذ وإدهاش العالم كما يقولون، لكن إرادة زراعة القمح وتوفير الغذاء، أهم وأولى ألف مرة من إرادة الخرسانة والاحتفالات والمظهريات واللقطات والأضواء البراقة، فإذا لم يجد الناس ما يأكلونه، هل يصنعون خبزًا من الإسمنت والرمل والزلط، أم يعيدون مشاهدة شرائط فيديو المهرجانات فيشبعون من السعادة وإبهار العالم؟

في كارثة كوفيد -19، لم يضمن الاستقرار والأمان، إلا البلد الذي كان لديه خبز وطعام، وكان عنده زراعة ومحاصيل وتصنيع زراعي، كل مظاهر وروافد وجواهر الحضارة البراقة خفتت، ولم يكن لها معنًى كبير أمام لقمة عيش وشربة ماء وحبة دواء وطبيب متخصص وعقل باحث عن اللقاح.

إغراء الفلّاح

الزراعة تاريخيًّا قاعدة التنمية وصلبها، وبدونها تهتز مشروعات التنمية، قد تقع أحداث كبرى، كالأوبئة والكوارث والحروب وغيرها، فتضرب الصناعة والتجارة في مقتل، لكن من يزرع ويحصد يضمن العيش حتى تزول مسببات أزمات الإنتاج وتوقّف سلاسل التوريد، كما فعل كورونا طوال عامين، ومثلما تسببه حرب روسيا وأوكرانيا حاليًّا من أضرار وإشعال للأسعار عالميًّا.

البند الثاني في خطة القمح الجديدة، هو إعلان أسعار سخية للفلّاح لإغرائه على زراعة القمح، والإسراع بالإعلان عن سعر توريد المحصول في الموسم المقبل بحيث لا يقل عن 1200 جنيهًا للأردب، وتقديم وزارة الزراعة البذور الجيدة للفلاح بسعر رمزي، وزيادة دعم الأسمدة، هذا الدعم تقلّص إلى 3 شكائر سماد للفدان في الموسم، بعد أن كان 4 شكائر، وهذا مثير للسخرية حيث يُعاقب الفلاح بدل دعمه، وتسهيل حصوله على قروض من البنك الزراعي لمحصول القمح خصيصًا بفائدة قليلة.

هذه بنود، ضمن خطة يجب أن تكون أوسع، لتحفيز زراعة المحصول الإستراتيجي، وإذا كانت المساحة المزروعة هذا العام 3.4 ملايين فدان، فإنها قد تتضاعف إلى 7 ملايين فدان في الموسم المقبل، وهنا ستتسلم الدولة نحو 21 مليون طن من القمح، باعتبار أن إنتاج الفدان قد يصل إلى 3 أطنان (20 إردبًّا)، ومصر تستهلك 18 مليون طن سنويًّا، وبالتالي فستحقق الاكتفاء الذاتي فورًا، وسيفيض المحصول للتخزين لعام قادم، ولا مانع من أن تدخل عالم التصدير.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان