بلفاست: حين يغلق الصراع في الأوطان أبواب المستقبل

(1)
العالم كله يقف على أطراف أصابعه وهو يتابع بهلع الحرب الدائرة في أوكرانيا خوفا من توسعها وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة تقضي على الأخضر واليابس. الإعلام العالمي موجه كاميراته إلى مسرح الأحداث، والقنوات الفضائية تستضيف على مدار الساعة متحدثين ليوضحوا للمشاهد تصوراتهم عن مستقبل الحرب وتداعياتها ومتى سيسقط بوتين في الحفرة التي حفرها بيديه، وهل سيتدخل التنين الصيني أم سيظل كامنًا في عزلته الاختيارية منتظرا اللحظة المواتية ليصعد في هدوء إلى القمة بعد أن تقتل الأفيال بعضها بعضا؟
(2)
القتل فعل من أقدم الأفعال البشرية عرفه الإنسان منذ بدء الخليقة، يقدم عليه دوما شخص يقع في غواية القوة التي تزين له الاستيلاء على ما يصور له غروره وخياله المريض أنه حق له، لا يردعه صراخ الأطفال ولا عويل الأمهات ولا قهر الرجال، الغرور والتكبر أمراض لا علاج لها سوى الموت أو المحرقة. الحروب حول العالم يشعلها أفراد في مواقع القيادة والزعامة بدافع الطمع والرغبة في السيطرة والهيمنة والاستيلاء على ما هو حق للآخرين، وتدفع ثمن الغواية عامة الناس المحاصرة بين الموت والفرار. تلتهم الحروب في ساعات حصاد سنوات من العمل والبناء، تقتل حاضر الناس وتستولي على مستقبلهم، الأمن والأمان يفران أمام الدبابة ويقعان رهينة في يد كل من يحمل في قبضته رصاصة.
(3)
عن الأمن والأمان المفقودين في الوطن، تدور أحداث فيلم “بلفاست” المرشح لـ7 جوائز أوسكار هذا العام، أهمها أفضل فيلم إنتاج 2021، وتدور أحداثه في بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية عام 1969. شهدت المدينة حينها صراعا طائفيا بين البروتستانت (الأغلبية) والكاثوليك (الأقلية) امتد لثلاثة عقود، الحروب الأهلية بسبب الصراع الديني والطائفي تخفي تحت عباءتها دوما أهدافا سياسية ومصالح دنيوية وتنفخ فيها أطراف خارجية.
في شهر أغسطس من عام 1969 بدأت أعمال شغب واسعة في بلفاست، في هذه الأجواء العاصفة يعرض لنا الفيلم حياة الطفل الإيرلندي البروتستانتي “بودي” قبل بداية الصراع وبعده. فقد كان هذا الطفل يحيا طفولة سعيدة في أحد أحياء بلفاست الفقيرة بين أقرانه من أبناء الأسر العاملة، حيث أبواب منازل الحي مفتوحة أمام الجميع والكل يشعر بأنهم عائلة واحدة، والد “بودي” يعمل في لندن ويأتي في إجازة كل أسبوعين، الأم تتحمل عبء تربية الولدين بمساعدة والدي زوجها الجد والجدة. الفيلم يعرض للمتفرج التفاصيل الصغيرة في الحياة التي تصنع الفارق، صخب الأطفال ولعبهم في الشارع مع أقرانهم من أبناء الحي، صحبة المدرسة، مساعدة الجد لحفيده في الواجب المنزلي، رغبة الصغير في التفوق ليتقرب من زميلته في الفصل التي يحبها في صمت ويخجل من التعبير عن هذا الحب البريء، الدفء الأسرى، الأزمات المالية التي تتعرض لها العائلة، انتظار عودة الأب وعطف الأم وحزمها وجلسات السمر مع الجيران. يقدم لك الفيلم أسرا بسيطة تشعر بالرضا والسعادة رغم افتقادها للرفاهية والثراء، لكنها غنية بمشاعر الحب والمودة التي تربط أفرادها وتشعرهم بالأمان بعضهم مع بعض.
فجأة تنقلب الأحوال رأسا على عقب وتتعرض بيوت الكاثوليك من أهل الحي ومتاجرهم للاعتداء والتحطيم على أيدي جماعات مسلحة من البروتستانت يطالبونهم بالجلاء عن المكان وكأنهم غرباء أو لاجئون غير شرعيين وليسوا من أبناء الوطن. ويتعرض الوالد لضغوط من قبل قائد أحد هذه الجماعات (كان زميلا له في الدراسة) للانضمام إليه ولكنه يرفض بشدة ويطلب منه الابتعاد عنه وعن أسرته، ولكن هذا القائد يحاول أن يجند ولده البكر ليصبح مراسلا لهم، ويقف رب الأسرة المسافر عاجزا عن تأمين أسرته أثناء غيابه ولم يعد أمامه إلا التفكير في الرحيل والنزوح بأسرته إلى لندن حيث يعمل والتفكير في عرض العمل المغري المقدم له الذي سيحقق له ولأسرته حياة أفضل في بلد آخر. هذا القرار يجد معارضة من الزوجة الشابة والصغير “بودي” فكلاهما مرتبط ببلفاست، ولا يجد مدينة أخرى في العالم يمكن أن تكون بديلا عنها، الوطن بالنسبة لهما ليس قطعة أرض أو حفنة تراب لكن شوارع وذكريات وصحبة. لكن الأحداث لا تترك لهما خيار، يجد الصغير “بودى” نفسه مشتركا رغما عنه، بسبب إلحاح جارته التي انضمت للجماعة المسلحة، في الهجوم على متجر يمتلكه كاثوليكي، ويسرق منه مسحوق غسيل يجلبه لأمه التي تنهره بشدة وتأخذه من يده ليعيده وتأتي الشرطة ويوشك الصغير أن يقع في يد الشرطة ولكن والده يعود بالصدفة لينقذه ويعترض طريق قائد هذه المجموعة المسلحة ويسلمه للشرطة، وتصبح حياة الأب معرضة للخطر بسبب تهديد هذه الجماعة بالانتقام منه، وتتراجع الزوجة والصغير “بودي” عن موقفهما بعد شعورهما بالخطر الداهم، وتدرك الزوجة الشابة أنه لم يعد لها مكان في وطن أصبح مسرحا لصراعات طائفية وكراهية يتبادلها أطراف الصراع تهدد حياة أبنائها وزوجها، وترحل الأسرة عن المدينة تاركة وراءها ذكريات وأحبة وشعورا غامرا بالفقدان.
مخرج وكاتب الفيلم هو الممثل الإيرلندي كينيث براناه وهو من مواليد بلفاست، ولقد تعرض لنفس ما تعرض له الصغير “بودي” في الفيلم وعاصر نفس الأحداث.
(4)
“بلفاست” فيلم عن الوجع في الوطن حين يستولي الجنون على بعض أبنائه ويعمي التعصب والمصالح الضيقة فئات بعينها، فتصعد بالوطن إلى الهاوية ظنًّا منها أنها على حق وأن الآخر على باطل، والحقيقة أن كلاهما على باطل.
الفيلم يمس قلبك بنعومة ويعتصره برفق رغمًا عنك. قارنت بينه وبين بعض دولنا العربية التي تحولت إلى “بلفاست” أخرى طاردة لشعوبها محطمة لآمال شبابها، وعاد بي الواقع من جديد إلى أوكرانيا حيث نشاهد كيف يتلاعب القادة بمصائر الشعوب وكيف تعمي أطماع الزعماء عيونهم فلا يرون حصاد الخراب.