إعلان شوشة وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية.. هنا تقف تركيا
رغم أن إعلان شوشه المبرم بين تركيا وأذربيجان تم الاتفاق عليه في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي، فقد عاد ليتصدر المشهد الإعلامي التركي عقب قيام الرئيس أردوغان بالتصديق على بنوده ونشره في الجريدة الرسمية قبيل توجهه إلى بروكسل لحضورالاجتماع الاستثنائي لدول حلف الناتو لبحث الأزمة الأوكرانية، هذا التزامن بين الحدثين حمل في طياته الكثير من الدلالات والإيحاءات بشأن التحركات التركية في أسيا الوسطى ومنطقة القوقاز، والمغزى من ورائها.
صحيح أن الهدف الرئيس المعلن لهذا الاتفاق هو تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة جنوب القوقاز، إلا أن حديث وزير الخارجية التركي عن إصرار بلاده على تضمين بنود شوشه في اتفاقات تركيا المستقبلية مع جميع دول المنطقة، يعني أن هناك تحالفاً جديداً يتم التحضير له بدقة متناهية وبهدوء من جانب تركيا، لتقوية نفوذها في هذه البقعة من العالم، وزيادة حجم قدرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية لمواجهة السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة المقبلة، تلك السيناريوهات التي تنبأ بظهور نظام عالمي جديد خلال الحقبة الزمنية المقبلة.
فتركيا الحديثة لن تقبل بلعب دور هامشي في المنظومة العالمية الجديدة، كما أنها لا يمكن ان توافق على الاستمرار في القيام بدور التابع للمتبوع، لكنها تطمح في أن تكون أحد اللاعبين الأساسيين، الذين يقومون بوضع السياسات، ويقررون الاستراتيجيات، ويديرون العالم اقتصاديا وجغرافيا.
وفي هذا الصدد يمكن الوقوف على ملامح السياسة التركية تجاه هذه المنطقة مما ذكره أحمد داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية في كتابه” العمق الاستراتيجي” حيث ذكر أن منطقة القوقاز بالنسبة لتركيا بمثابة بوابة مفتوحة لآسيا، وأنه لهذا السبب أولت تركيا في استراتيجيتها الجديدة اهتماما خاصا بمنطقة القوقاز والشرق الأوسط، وهذا يعني أن جنوب القوقاز بالنسبة لتركيا بمثابة مركز ثقل سياسي لهاتين المنطقتين الجغرافيتين.
ولهذا الهدف تحديدا سعت أنقرة لنقل علاقاتها مع باكو إلى مستوى متقدم على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وساعدتها لوجستيا وتقنيا لتحرير أراضيها المحتلة من جانب القوات الأرمنية، وكان للطائرات المسيرة التركية “بيرقدار” دورا مهما في حسم المعارك لصالح أذربيجان.
وردا للجميل قام صندوق النفط الحكومي الأذري في فبراير/ شباط الماضي بإيداع مبلغ مليار يورو في البنك المركزي التركي لدعم الاستقرار المالي بتركيا في الأزمة التي يواجهها اقتصادها وانخفاض سعر الليرة مقابل العملات الأجنبية.
أذربيجان والعمق الاستراتيجي لتركيا
ومدينة شوشة التي يحمل الاتفاق اسمها هي مدينة أذرية لها أهمية استراتيجية ورمزية تاريخية وثقافية كبيرة للشعب الأذري، احتلها الجيش الأرمني سنة 1992، ونجح جيش أذربيجان في تحريرها عام 2020، واختيارها لهذا الإعلان له دلالة سياسية لا يمكن تجاهلها، وهو تأكيد العمق الاستراتيجي لتركيا في منطقة القوقاز.
وحتى يمكن إدراك الأهمية التي ينطوي عليها إعلان شوشة، وما يمثله من أهمية لكلتا الدولتين، كونه يعد بمثابة خريطة طريق لتعاون البلدين في مجالات عدة أهمها مجال التقنيات الصناعية الدفاعية، والطاقة والنقل، والاقتصاد، مجالات يتم من خلاله تشكيل واقع جيوسياسي جديد يهدف إلى خلق عامل توازن مهم في منطقة جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وولادة قوى سياسية وعسكرية واقتصادية جديدة تضاف إلى خريطة العالم المرشحة بقوة للتغيير في المستقبل القريب، الأمر الذي سيجبر العديد من دول المنطقة على إعادة حساباتها، وصياغة توازناتها، وفي مقدمتها اليونان، وروسيا، وإيران، وأرمينيا.
ومن هذا المنطلق كان الاتفاق بين البلدين على انشاء مطار دولي في مدينة فضولي الذي افتتح العام الماضي، وعمل طريق بري يصل بين فضولي وشوشة، ما يرفع من أهمية ممر زنغازور الذي يقوم بمهمة ربط الأراضي الأذرية بتركيا عبر إقليم ناخشفان.
ولتثبيت مكانتها الجديدة في المنطقة سعت تركيا لإنشاء قاعدة عسكرية في أذربيجان، بهدف التأثير على الوضع الأمني في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى، إلى جانب إمكانية استخدامها لتلك القاعدة كورقة ضغط جديدة على كل من روسيا وإيران في حال اضطرت لتصرف كهذا.
مركز إقليمي لنقل الغاز والبترول
ومع أهمية المكاسب الجيوسياسية، لا يمكن تجاهل القيمة الاستراتيجية لأذربيجان في مجال الطاقة كونها تمتلك حوالي 1.8 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، و7 مليارات برميل من احتياطيات النفط، وهو الأمر الذي أوضح أهمية أذربيجان عقب إندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وبروز مسألة العقوبات على موسكو، والتي منها بطبيعة الحال حظر نقل الغاز الروسي، الأمر الذي أصبح يهدد القارة الأوربية ويعيق خططها الصناعية والدفاعية.
وقيام تركيا بدور الناقل للغاز والنفط الأذري في ظل هذه الظروف يخدم مصالحها على صعيدين، الأول تنويع مصادرها من الطاقة، وتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، والثاني تحولها إلى مركز إقليمي لنقل الطاقة بين آسيا وأوربا، وضمان عدم احتكار روسيا أو إيران لممرات نقل الطاقة، الأمر الذي يزيد من قيمتها على المستوى الاستراتيجي، ويرفع من اهميتها بالنسبة لأوربا.
وعبر هذه الآلية تبرز أهمية أذربيجان كنقطة بدء خطي أنابيب نقل البترول والغاز، أولهما يمر بجورجيا، ومنها إلى ميناء جيهان التركي حيث يتم نقله إلى العالم الخارجي، وثانيهما هو خط أنابيب الغاز “باكو – تبليسي – أرزروم” والذي أصبح جزءا أساسيا من خطوط الأنابيب الضخمة التي تمر عبر ستة دول، حيث تم ربطه بخط أنابيب الغاز العابر لمنطقة الأناضول المعروف باسم “تاناب”إلى جانب خطط ربطه بخط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي الممتد بين كل من ألبانيا واليونان وإيطاليا.
ويصب هذا المشروع الذي تبلغ تكلفته 45 مليار دولار، وهو أكبر مشروع لنقل الطاقة في العالم، في تحقيق رغبة تركيا كدولة عبور مهمة لنقل الغاز الآسيوي إلى الأسواق الأوربية لمنافسة الغاز الروسي.
وفي إطار تعزيز مكانتها كممر للطاقة قامت أنقرة بتوقيع اتفاقية من باكو لإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز بين إقليم ناخشفان ومدينة إغدير التركية بطاقة إنتاجية تبلغ 500 مليون متلا مكعب سنويا، وهو ما سيمنحها ميزة استراتيجية أخرى، لكن هذه المرة على حساب طهران، التي كانت تقوم بمفردها بنقل 400 مليون متر مكعب من الغاز سنويا من ناخشفان الأذرية إلى مدينة أستارا الحدودية الشمالية الإيرانية، وفق اتفاق وقع بين البلدين في عام 2004 م، وهو ما يعني تقليص حجم النفوذ الجيوسياسي الإيراني في المنطقة لصالح تركيا.
مكاسب اقتصادية وتجارية
ولا تتوقف الإفادة من إعلان شوشة على جانب التعاون في المجال العسكري والطاقة، لكن الأمر يتخطى ذلك إلى الاقتصاد، إذ بدأ العمل على وضع الآليات الضرورية للقيام بإنتاج مشترك وتطوير التعاون في مجال الاستثمار، في ظل وجود أكثر من 2600 شركة تركية تقدر استثماراتها داخل أذربيجان بحوالي 6.3 مليار دولار، فيما يصل عدد الشركات الأذرية العاملة في تركيا 1600 شركة بقيمة استثمارات تصل إلى 5 مليارات دولار، إلى جانب العمل على ضمان حرية النقل البري عبر شبكة من الطرق والممرات، بهدف تقصير وقت عبور الشاحنات وخلق بيئة أكثر ملاءمة لزيادة حجم الصادرات التجارية.
إعلان شوشة إذاً ليس مجرد اتفاق مصالح بين بلدين تربطهما علاقات تاريخية وثقافية، وإنما هو تحرك هادئ تسعى من خلاله أنقرة لفتح الطريق أمام تنفيذ استراتيجيتها تجاه منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى ، وإعادة رسم خرائط الفوذ بها، وخلق واقع جديد يتناسب مع مصالحها، ويؤمن لها ترسيخ أقدامها كقوة فاعلة في النظام العالمي الجديد الذي يتم التحضير له.