الإذعان.. هو ما تريده روسيا من أوكرانيا!
رئيس البحرية التركية السابق يكتب لـ “الجزيرة مباشر”
واجهت السياسة العالمية مرة أخرى وبعد سنوات عديدة الخطابات السياسية ذات القطبين التي كانت في حقبة الحرب الباردة، ففي 24 فبراير 2022 بدأ العالم يومه ليتفاجأ بقصف روسيا لأوكرانيا.
وفي 28 فبراير 2014 شهد العالم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وربما كانت روسيا تهدف إلى استكمال خطة عملياتها في 28 فبراير، والتي كانت ستنتهي باحتلال العديد من الأماكن في أوكرانيا وإنهاء سلطة الحكومة الشرعية، لأن ذاكرة الدولة الروسية تحب العمل بالتواريخ والرموز، لكن النجاح غير المتوقّع لأوكرانيا في المناطق السكنية أدى إلى إبطاء روسيا إلى حد كبير، حيث استهدفت بشكل أساس المناطق العسكرية والمباني الحكومية، في محاولة لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين ابتداءً من اليوم، فحاصرت روسيا كييف وسيطرت بشكل كبير على شرق أوكرانيا وجنوبها.
إذا تذكرنا، فقد أعرب الكثير من الناس عن سبب تدخّل روسيا في أوكرانيا وهو العضوية المحتملة في حلف الشمال الأطلسي ونقل جنود الناتو إليها نتيجة لهذه العضوية. ومع ذلك، فإن من يعرف أسلوب عمل الناتو يعرف أن هذا الأمر غير محتمل. الشرط الأساس للعضوية في الناتو هو عدم وجود احتلال أو صراع على أراضي تلك الدولة. لذلك، فإن عضوية الناتو غير واردة بالنسبة لأوكرانيا، التي تم احتلال أراضيها في شبه جزيرة القرم منذ عام 2014.
ابتداءً من هنا أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف مرارًا وتكرارًا قبل التدخّل أن أوكرانيا لم تكن دولة مستقلة، وأن هذه الأراضي لها جذور روسية، وبالإضافة إلى ذلك، تحدثوا عن الإدارة الحالية كنظام مخالف لشرعية الإدارة الأوكرانية، وأوضحوا أن هذه الأراضي كانت جزءًا من روسيا، وأنهم يرونها جزءًا من الجسد الواحد وسيتصرفون وفقًا لذلك.
الشروط
السؤال الرئيس الذي يجب طرحه في إطار الحرب الروسية الأوكرانية هو كما يلي: كيف تأكدت روسيا من أنها لن تتعرض لممارسات عسكرية رادعة في سياق التدخل في وحدة أراضي أوكرانيا وانتهاك القانون الدولي؟ وهذا أمر يمكن التنبؤ به للغاية؛ فإذا تدخلت روسيا، التي لها علاقات وثيقة مع التحالف الغربي في أوكرانيا، وكان هناك رد عسكري من قبل الغرب، فكان من الممكن أن يؤدي هذا الصراع إلى حرب عالمية. ومع ذلك، فإن نهج الصين التوسعي صار يهدد العالم كله اقتصاديًا ولوجستيًا وعسكريًا، ولا يهدد الغرب فقط بل روسيا أيضًا، فيبدو أن هاتين الكتلتين قد توصلتا إلى اتفاق صامت وخفي على العودة إلى العالم الثنائي القطب القديم، ومنع القطب الثالث من اكتساب السلطة.
في ظل هذه التطورات كلها، ومع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير 2022، غادر ملايين الأوكرانيين بلادهم، وقصفت المدن ودُمّرت أوكرانيا.
في البداية أعلنت روسيا عن الأهداف السياسية والعسكرية لهذه العملية على النحو التالي:
تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة وغير مسلحة، وتنحية زيلينسكي من الإدارة على أن يحل محله إدارة موالية لروسيا، والاعتراف بضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا وبقرارات المدن التي أعلنت استقلالها في منطقة دونباس.
ويضاف إلى ذلك “توفير السيطرة الروسية في أوديسا“، فإذا حدث ذلك ستكون أوكرانيا دولة منحصرة في البر وغير ساحلية.
لقد أكدت من البداية؛ أن أوكرانيا تركت كأكلة بين يدي روسيا. العالم الغربي كان يعرف منذ شهور أن روسيا ستهاجم أوكرانيا. لقد قلت هذا منذ أشهر وأكرره الآن مرة أخرى. سوف تتخلّى أوكرانيا عن شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس وبعض المناطق الأخرى، وسيتم تقديم هذا للعالم على أنه نجاح للدبلوماسية. كيف سيتم هذا؟ رغم أن أوكرانيا كلها لم تحتل. وسيعلن بأن الدبلوماسية قد نجحت. ولكن أوكرانيا في تلك الحالة ستفقد كل أراضيها.
هناك وضع سياسي واقعي. يستمر ما يسمى بالمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا. أقول ما يسمى بالمفاوضات لأن ما تفهمه روسيا من المفاوضات هو قبول شروطها. لذلك لا يمكن للروس أن يصلوا إلى نتيجة من هذه المفاوضات بتقديم تنازلات. يمكن أن يكون هذا مجرد هدنة. قلت من البداية إن ما يسمى بالمفاوضات التي جرت بين الطرفين خلال عملية الغزو ستؤدي إلى قبول شروط الروس، وسيسمى هذا بانتصار الدبلوماسية. كيف ستكون هذه الخطة ناجحة؟ لقد ذكرت أيضًا أن منطقة دونباس ستكون مستقلة -إذا لم يتم منحها للروس تمامًا- وسيتم الاعتراف بضم منطقة القرم، وسيتم تسليم مناطق أخرى إلى الروس.
الأخبار التي تنقل يوميًا تؤكد هذا الأمر. ووفقًا لادعاء الجانب الروسي، فإن السلطات الأوكرانية اقترحت أن يكون لبلدهم حياد من نوع الحياد السويدي، وأن هناك محاولة للتوصّل إلى اتفاق حول وضع الجيش.
بالإضافة إلى ذلك، صرّح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو “في المستقبل القريب”. يبدو أن روسيا حصلت على ما تريده فيما يتعلق بمطالبتها بالحياد، وبالنظر إلى هذه البيانات، سنرى قريبًا أوكرانيا المحايدة. أما فيما يتعلق بمسألة نزع السلاح وتحديد الجيش، فمن المحتمل أن تكون بعض القيود قد وُضعت، مثل الحد من تعداد الجيش، وتحديد قائمة المعدات “المحظورة”. لا ندري إلى أي حد وضعت روسيا الخط الأحمر في ما يتعلق بمطالبها في هذا الصدد.
من المؤكد أن روسيا لديها مطالب واضحة لحظر الأسلحة والمنشآت النووية. لأن زيلينسكي كان قد تحدث في مؤتمر ميونيخ للأمن عن هذه الإمكانية في أوكرانيا، وأعطى رسائل متعلقة بذلك. وأثناء الحرب، كان بوتين ومسؤولو وزارة الخارجية الروسية يذكّرون المسؤولين الأوكرانيين باستمرار بهذه الرسائل.
ما تريده أوكرانيا
يبدو أن ما تريده أوكرانيا هو أن تكون في وضع الحياد المسلّح مثل السويد وفنلندا.
“الحياد المسلح” هو أسلوب أمني تفرضه السويد على نفسها على مر السنين. وهو أيضًا نهج للسياسة الخارجية. وأحد أهم عناصر هذا النهج هو أن الجيش يجري تدريبات تركّز فقط على الدفاع دون تحديد الأهداف. المقصود من فرض العقوبة الذاتية هو أنه في ظل الظروف العادية لا يمكن لدولة أخرى أن تفرض هذه العقوبة على دولة ذات سيادة؛ فالدول تفعل ذلك طواعية. ويتم تطبيق هذا النهج بسحب الجيوش من الخطوط الحدودية، ويتم إجراء التدريبات العسكرية في المناطق الداخلية من البلاد ولأغراض دفاعية.
هناك أمثلة عديدة عن الدول التي رفضت اتخاذ موقف من الحرب على الرغم من زيادة نفقاتها العسكرية باستمرار مثل موقف تركيا خلال الحرب العالمية الثانية “جاهز ومستعد للحرب لكنه يرفض أن يكون طرفًا فيها”، وإنشاء منطقة خالية من الجيش على الحدود النرويجية السويدية عام 1905، ورفض النرويج إجراء مناورات عسكرية على الحدود الروسية حتى اليوم، وعدم مشاركة السويد في تحالفات مثل الناتو إلى يومنا الحالي.
يبدو أن أوكرانيا يمكن أن تتخلّى بطريقة ما عن أراضيها التي خرجت عن سيطرتها، ولكن هل ستوافق على أن تبقى من دون جيش في مواجهة لاعب عدواني؟ سنرى ماذا سيحدث.