فتوى شهادات الاستثمار .. ما كُنْهُهَا؟

إنّ وصف “تمويل” ليس وصفا منضبطا ولا تكييفا محددا يصلح لأن يتنزل عليه حكم شرعيٌّ، إنّه يشبه تكييف “الويسكي” على أنّها شرابٌ

مفتي مصر

ما كُنْهُهَا؟ ما طبيعتها؟ مِن أيّ عجينة كلامية قُدَّتْ تلك “التركيبة” التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية على أنّها فتوى شرعية في مسألة شهادات الاستثمار؟ أتساءل أولا عن كنهها لا عن مأخذها الشرعيّ؛ لأنّها لا تَمُتُّ – من حيث المضامين والصياغة – للشرع ولا للفقه بأدنى صلة، فَهَلَّا تَخَلَّى هؤلاء عن طَفْوِهم فوق سطح أَزْهَرٍ يَرْسُبُ في قاعه ما لا يحصى من الدرر واللآلئ؟

الفتوى المهترئة

في سَبْع جُمَلٍ تتبارى في الركاكة والإسفاف؛ أُلْقِيَت الفتوى عارية عن كل ما يمسكها من الانحدار إلى سقط الأقاويل، فلا معنى ولا مبنى، لا مضمون شرعي ولا صياغة فقهية، تُطالعنا الجملة الأولى بتكييف العملية على أنّها تمويلٌ، وتؤكد الثانية أنّ التمويل عقد جديد خلقه الاقتصاد على غير مثال سابق! وتستطرد الثالثة موضِّحة أنّ العقود الجديدة جائزة ما لم تكن غررا أو ضررا أو ربا؛ ومن ثمّ فلا وجه للاعتراض – بحسب الجملة الرابعة – ثُمَّ على طريقة “جزرة وقضمها جحش” حسمت الجملة الخامسة الموقف من الأرباح التي تحدد سلفا بأنّها جائزة، ثم تأتي السادسة بالتسويغ المقاصدي؛ حيث تُعَدُّ هذه الشهادات مُحَفِّزة للادخار والاستثمار، أمّا سابعة “البلاوي” فلا أدري كيف تسللت إلى السياق، تقول: إنّ لها حماية قانونية تنظمها!

التكييف المتهاوي

فلنقف أولا عند ذلك التكييف الذي بُنِيَتْ عليه الفتوى، فشهادات الاستثمار – حسب الفتوى – تمويلٌ، فهل هذا الوصف يصلح لأن يكون تكييفا فقهيا لمعاملة لها أركان قانونية محددة؟ إنّ وصف “تمويل” ليس وصفا منضبطا ولا تكييفا محددا يصلح لأن يتنزل عليه حكم شرعيٌّ، إنّه يشبه تكييف “الويسكي” على أنّه شرابٌ، وتوصيف الميتة على أنّها لحمٌ، والشراب واللحم لا يتنزل على واحد منهما حكم بالحل أو الحرمة حتى يُعلم أيّ شراب هذا وأيّ لحم ذاك؟ إنّ التمويل وصف عام لعملية تتنوع صورها وتتعدد أشكالها، فالتمويل هو دفع المال لمن ينميه، وهذا يتحقق بالقرض الربوي المجمع على تحريمه وبطلانه، كما يتحقق بالمضاربة الشرعية المجمع على جوازها وصحتها، لذلك نجده في الاقتصاد ينقسم إلى أنواع أهمها: التمويل بالقرض والتمويل بالأسهم، فإقراض الشركة تمويلٌ وشراء أسهم في شركة تمويلٌ؛ فهل يستويان؟ وما يقال عن التمويل يقال عن الاستثمار، فهو تثمير للمال، وتثمير المال يكون بالحلال والحرام من قنوات الاستثمار التي تتدرج سفولا وصعودا من الأرض السابعة إلى السماء السابعة؛ فكيف يصلح التنزيل لحكم شرعيّ على أوصاف كهذه؟

التكييف الصحيح

أمّا التكييف الصحيح لشهادات الاستثمار فهو أنّها قروض بفوائد محددة سلفًا؛ فالجهة المصدرة للشهادات هي المقترض، والشخص الذي يشتري الشهادة هو المقرض، والمبلغ المدون في الشهادة هو رأس المال، والزيادة هي الفائدة الربوية، وقد عَرَّفَ العلماء الربا بأنّه: “زيادة مشروطة في دين مقابل الأجل” وأجمعوا على تحريمه في أيّ صورة أتى، وقد كان له في الجاهلية صورا أربعة، تكاد تغطي الصور المعاصرة في البنوك بعد تطوير في جانب الآليات، وهذا التكييف هو ذاته التكييف القانوني لشهادات الاستثمار، فالقانون رقم 8 لسنة 1965 ينص على أن الشهادات “أ،ب” قرض بفائدة، وإذا كان هذا التكييف واضحا بالنسبة للمجموعتين أ، ب؛ فإنّ  المجموعة “ج” – التي حدث حولها شئ من الجدل بسبب أن عائدها يوزع في صورة جوائز – لا تقل في استحقاقها بالتكييف ومن ثم بحكم التحريم عن “أ” و”ب”؛ لأن ما  يجرى عليها لا ينقلها عن أصلها الربوي بل يزيد على مصيبة الربا مصيبة أخرى وهي الميسر؛ فالذي يحدث هو أن الفوائد الربوية العائدة على مجموع المشتركين في هذه الشهادات بدلا من أن توزع عليهم بحسب حصصهم، تجرى عليها قرعة لتوزع في صورة جوائز متفاوتة يختص بها أصحاب الحظ من العملاء، فهل إذا أضفنا الميسر إلى الربا يتحول الربا من الحرام إلى الحلال؟!

خطأ آخر في التوصيف

ومما قيل – وكم بالمقولات من تفاهات – إنّ البنك هنا عامل، والمشتري للشهادة رب المال، والمعاملة مضاربة، ولا يمكن أن يمر هذا الكلام حتى يمر من ثغر الحقيقة قطار الأوهام؛ فإنّ البنك ليس عاملا، فالبنوك عملها الاستثماري هو الاتجار في الائتمان، وهي تقترض بفائدة وتُقرض بفائدة أعلى وتربح الفرق، ولا يمكن تكييف معاملاتها في الودائع أو شهادات الاستثمار على أنّها مضاربة؛ وآية ذلك أنّ يد العامل المضارب على المال يدُ أمانة بإجماع العلماء، أمّا يد البنك على الودائع بكافة أنواعها فهي يدُ ضمان بإجماع القانونيين، كما أنّ العائد على رب المال في المضاربة “نسبة شائعة من الربح” أمّا العائد على المودع أو صاحب الشهادة فهو “نسبة من رأس المال”، وشتان بين الأمرين، يضاف لهذا وذاك أنّ المخاطرة – التي هي مناط استحقاق الربح – تكون في المضاربة على الجانبين “الغرم بالغنم”، فإن حصل ربح كان بينهما، وإن وقعت خسارة كانت بينهما، فيخسر العامل عمله ويخسر الآخر ماله.

وماذا يفعل العامّة؟

فإن قيل – وكم بالأقاويل من تهاويل – وماذا يصنع الناس مع هذا الخلاف الفقهيّ؟ فتلك أطروحة كالفخ المنصوب، وليس من خطره فكاك إلا بسؤال مقابل: فهل إذا قال الفقهاء الأربعة بحكم فخالفهم واحد من متأخري المذاهب يُعتد بخلافه لهم ويقال إنّ هذه مسألة فيها خلاف؟ إنّ الجهابذة من علماء الأزهر – من أمثال عبد المجيد سليم وحسن مأمون ومحمد أبو زهرة وجاد الحق وعطية صقر – قالوا كلمتهم في جميع فوائد البنوك بما فيها شهادات الاستثمار، وكذلك المجامع الفقهية الكبرى، بما فيها مجمع البحوث الإسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي ومجمع رابطة العالم الإسلامي.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان