الحرس الأبيض في زمنين.. روسيا القيصرية 1917 وروسيا البوتينية 2022
هل تلحق الهزيمة ببوتين ويلقى مصير القياصرة الذين يحاول أن يعيد أمجادهم ويتشبه بهم؟

في روايته “الحرس الأبيض” يحكي الرّوائي الرّوسي “ميخائيل بولفاكوف” تجربته الشّخصية حين اندلعت الثّورة البلشفية في روسيا “القيصرية” عام 1917 عندما تمّ القبض على الأسرة الحاكمة ثم إعدام أفرادها جميعاً. حدث هذا إبان مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى.
قام البلاشفة (ومعناها الأكثرية) وهي جماعة من الجناح اليساري أنصار لينين في حزب العمال الاشتراكي الدّيمقراطي الرّوسي الذي تأسس عام 1903 وهم الأكثرية في الحزب، بتشجيع الجنود كي يعودوا إلى الوطن ويعلنوا العصيان.
تتطوّر الأحداث واقعياً وروائياً حتّى انسحاب روسيا من الحرب العالمية وبدء الحرب الأهلية بين قوات “الحرس الأبيض” والبلاشفة. في الفترة نفسها تندلع حركة استقلال شعبية في أوكرانيا لتنفصل عن روسيا القيصرية، بالإضافة لوجود قوات ألمانية بأوكرانيا من المفترض أنّها تساند قوات “الحرس الأبيض” الموالية لروسيا القيصرية. بينما يساند البلاشفة حركة تمرد الفلاحين.
نحن أمام عدّة جيوش تتصارع كلّها على الأرض الأوكرانية في ظروف تاريخية بالغة التّعقيد. حيث يتواجه الرّوس مع الألمان ويتواجه الأوكرانيون مع الأوكرانيين في ظلِّ انقسامات حادّة بين مؤيد للاشتراكية ومعارض لها. ولذلك نرى تسارعاً في تبدّل الولاءات وسط فوضى مفزعة ونقص كامل للمعلومات.
الحرس الأبيض البوتيني
تتمحور أحلام بوتين اليوم باستعادة الوضع الذي كان عليه قبل مئة عام تقريباً حيث كانت أوكرانيا جزءًا من الإمبراطورية القيصرية، مع تباين حاد في الظّرف التّاريخي وموازين القوى على الأرض، فالأوكرانيون متحدون في سبيل الحفاظ على استقلالهم، يقاتلون بروح واحدة جعلت بوتين يعيد حساباته أكثر من مرّة، قد كان يظنُّ أنّ ثلاثة أيام تكفي لاحتلال كييف، مما اضطره إلى استخدام أسلحة جديدة تماماً مثل صواريخ (كينجال) التي دخلت الخدمة سنة 2019 القادرة على تدمير مخازن مُحصَّنة تحت الأرض والقادرة على التّخفي وخداع أنظمة الدّفاع الجوي، فهل سيضطر إلى استخدام أسلحة أكثر فاعلية بعد ذلك، مع استمرار المقاومة وتدفق الأسلحة الغربية لها؟ لقد بات واضحاً أنّ سياسة الأرض المحروقة والتّدمير الممنهج سيجعل الحرب تطول، وهذا يعني أنّ الحصار الاقتصادي سيشدد الخناق أكثر، مما قد يخلق تياراً مناهضاً للحرب في الدّاخل الرّوسي ذاته سيتنامى بكلِّ تأكيد وسيتسبب بانقسام داخلي.
هل تلحق الهزيمة ببوتين ويلقى مصير القياصرة الذين يحاول أن يعيد أمجادهم ويتشبه بهم؟
بكلّ تأكيد لن نستطيع القول إنّ التّاريخ يعيد نفسه فالمشترك الوحيد بين حرب أوكرانيا اليوم وحربها قبل مئة عام هو الطّمع الرّوسي بالأرض الأوكرانية، أمّا ما تبقى فمختلف جداً، في تقاطعات المصالح الدّولية وفي موازين القوى، وحتّى في توحّد الأوكرانيين خلال دفاعهم عن بلدهم واستقلال بلدهم.
يتبدّل العصر بعد مئة عام في زمن باتت المعلومات فيه متاحة لجميع البشر، وشبكات الإعلام العالمية التي تصنع الحروب أحياناً وتشارك في تسييرها جعلت التّحليلات السّياسية تتصادم وتتنافر وتهبط لمستويات مضحكة، مما يجعل التّكهنات سيّدة التّحليل، والتّوقعات أقرب إلى التّنجيم منه إلى المنطق الاستقرائي العلمي.
الدّور الغربي
هل يتخلّى الغرب عن دوره في الصّراع الرّوسي الأوكراني كما فعلت ألمانيا منذ مئة عام؟
لم تعد الحروب التّقليدية تجدي في زمن العولمة فما تخسره روسيا يومياً بسبب الحصار الاقتصادي أعظم بكثير من خسائرها المادية من (طائرات ودبابات وآليات مُدّمرة)، وإذا كان من الممكن تعويض الأسلحة المدَّمرة فيما بعد فإنّ تعويض الخسائر المالية يصبُّ في خانة المستحيل أمام منظومة عالمية شرهة جداً في التهام النّقد، ويأتي الدّور الأوربي ضمن هذا الإطار على درجة عالية من الأهمية إن لم يحصل بعض الخروقات في المواقف المتباينة، كأن تبقى ألمانيا أقرب للحياد منها إلى المشاركة الفاعلة تحت ضغط الحاجة إلى الغاز الرّوسي، مالم يتمّ تعويضها بطريقة أخرى، وإلى أن يستيقظ المارد الأوربي ستبقى أمريكا محراك الشّر الذي ينفث على جمر الصّراعات ليُسعرها ويزيد من اشتعالها ليبقى سيلان الذّهب المنصهر يصبُّ في قوالب بنوكها الخاصة على حساب الدّم الأوكراني، تماماً كما فعلت سابقاً مع العراق الذي نهبت ثرواته بكلّ وقاحة وجشع. وعندما تصل الحرب الأوكرانية إلى نهاياتها يمكن لها أن تتقدّم بثقلها لتبدو في أنظار العالم بصورة المنقذ تماماً كما فعلت في نهايات الحرب العالمية الثّانية.
تساؤلٌ أخير يشبه أمنية “تُرى هل تكون أرض أوكرانيا مقبرة الحرس الأبيض البوتيني؟”
لعلّ التّاريخ يعيد نفسه فنرى ثبات الأوكرانيين يؤتي ثماره، فتنتهي أسطورة العنجهية البوتينية كما انتهت أسطورة القياصرة الرّوس.