تعويم الجنيه والحرب الأوكرانية!

البنك المركزي المصري

في بعض المجتمعات تكون مقايضة الغذاء المدعوم، والوظائف المتاحة، والسكن الرخيص لجميع أفراد الشعب، بسكوته والاستغناء عن الحريات السياسية، وكانت الشعوب راضية أو هكذا تبدو، وفي المعسكر الغربي كانت المعادلة حرية وديمقراطية لجميع أفراد الشعب مقابل وظائف وأعمال شاقة وصعبة، وحياة مكلفة، والتنافس الشديد للترقي، وكانت شعوبهم راضية.

ولكن ما نشهده حاليًا في مصر هو تقليص الحريات والحقوق، وفي الوقت نفسه زيادة الجوع والبطالة، وارتفاع الأسعار مع فشل في السيطرة عليها بعد القرارات الاقتصادية المربكة التي تساعد على التضخم كل مدة.

تعويم أم إغراق؟

فقد جاء القرار الأخير بتعويم الجنيه المصري مقابل الدولار صادمًا للمصريين بعد تأثيرات فيروس كورونا، وما حدث من انكماش للسوق، وتداعيات اقتصادية كبيرة، حتى بدأ الناس يلتقطون أنفاسهم، فإذا بالحرب الروسية الأوكرانية تلقي بتبعاتها، فوجدنا ارتفاعًا حادًا في السلع وقفزات هائلة في الأسعار، وفي ذروة كل هذا تم رفع سعر المحروقات، وما يتبعه ذلك من تأثير في السلع كافة، ولم يكد الشعب يفوق من ذلك حتى استيقظ على انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة تتجاوز الـ18%، ووصل سعره لمبلغ 18.55 جنيهًا مصريًا.

فمنذ تعويم سعر صرف الجنيه في الربع الأخير من 2016، ليفقد أكثر من نصف قيمته أمام الدولار، جزءًا من شروط رفع الدعم، وحصلت بموجبه الدولة على قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار.

بعدها انفلتت الأسعار لتسجل ارتفاعًا وصل في الكثير من الحالات لأكثر من 50%، بل وتضاعفت الأسعار، كما انخفض معدل التضخم في 2017 إلى أكثر من 30%، وفق التقارير الحكومية، ولم يتم السيطرة على التضخم إلا في 2018، ثم ينخفض إلى أقل من 6% في 2020 متأثرًا بجائحة كورونا.

جنون الأسعار

ولكن مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، ومع توقعات الارتفاع في أسعار القمح والسلع الغذائية؛ جراء الحرب وتأثر إمدادات البترول حتى قفزت الأسعار إلى 140 دولارًا للبرميل من خام برنت، نجد أن الأسعار أخذت في التصاعد، ولا سيما أسعار اللحوم والألبان والأسماك والبيض، متأثرة بالارتفاع في أسعار الأعلاف، وكذلك فقد ارتفعت أسعار الدقيق والسكّر والزيوت إلى أكثر من 25% من أسعارها قبل نشوب الحرب.

ولأن الأسعار في مصر لا يحكمها عقل أو سوق أو حكومة، فقد ارتفعت أسعار الأسمنت لأكثر من النصف خلال أيام عدة فقط، برغم أنها صناعة مصرية بالكامل، ولم ترتفع أي من مدخلاتها بما فيها الكهرباء، ويوجد لدينا فائض في صناعة الأسمنت ويتم تصديره.

والغريب أن العملة الأوكرانية “الهريفينا” لم تخسر سوى 7% فقط في بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ثم استعادت كثيرًا من قيمتها رغم الغزو الروسي وتكاليف الحرب، كما أن العملة الروسية “الروبل” استعادت معظم قيمتها بعد ما خسرته في بداية الحرب، وبعد إعلان الرئيس الروسي بوتين اعتزام بلاده الحصول على قيمة مبيعاتها من الغاز الطبيعي إلى الدول التي وصفها بأنها “غير صديقة” بالروبل، وليس بأي عملة أخرى.

وهكذا استعادت عملتا الدولتين المتحاربتين قيمتهما، في الوقت الذي تنخفض فيه قيمة الجنيه، ثم يأتي الإعلام ليقنعك أن انهيار الجنيه وهبوطه بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وليس بسبب السياسات الخاطئة.

الديون هي السبب

ليس بالضرورة أن تكون حاصلًا على جائزة نوبل في الاقتصاد لكي تدرك أن الكارثة في اقتراضك مليارات كثيرة ضاعت في مشاريع غير منتجة، لذا لن تجني منها عائدًا، وحان الوقت لسداد فوائد هذه الديون، لذا عليك تنفيذ أوامر صندوق النقد الدولي لكي يتم الموافقة على قروض جديدة، وذلك بتعويم الجنيه، ورفع الدعم، وللأسف الحكومة مضطرة أن تنفّذ أوامر الصندوق.

فبعد أن كانت ميزانية مصر في المدة ما قبل 2013 تنقسم لثلاثة أقسام: ثلث للدعم، وثلث للأجور، وثلث لسداد الديون، ولكن الآن مع تضاعف الديون لتصل إلى ما يزيد عن 137.42 مليار دولار في شهر يناير الماضي تضخمت خدمة الدين، لتلتهم وحدها أكثر من ثلثي الميزانية، ليكون البديل هو إلغاء الدعم نهائيًا، وزيادة الضرائب، وزيادة رسوم وأسعار الخدمات الحكومية جميعها، لأن الحل السهل هو الاقتراض، ثم تقترض لتسد فوائد الديون، وهكذا في دورة فاشلة لن تنتهي طالما التفكير نفسه والعقلية نفسها التي تدير، والإعلام نفسه الذي يطبل وينافق السلطة ولا يقول الحقيقة، حتى لا نقع في تلك السلسلة من الفشل المتلاحق.

البيع هو الحل

أما الدول التي تستطيع أن تفكّر فتركيا نموذج، ففي الأسبوع الماضي قررت روسيا رفع القيود عن استيراد الخضراوات والفاكهة من 9 دول؛ هي: مصر وتركيا وأذربيجان وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وتركمانستان.

سريعًا أرسل البنك المركزي التركي خطابات لكل مصدّري الحاصلات الزراعية بالنظام الجديد للتصدير الذي اتفقوا عليه مع الروس، على أن يكون التعامل بالليرة التركية، وأن تخصم قيمة الصادرات التركية كلها من ديون تركيا لروسيا، على أن يسددها البنك المركزي التركي للمصدّرين الأتراك بالليرة التركية.

وهكذا سوف يسيطر الأتراك على السوق الروسي، وهو أكبر سوق للحاصلات الزراعية من الموالح والبصل والبطاطس، وهكذا نجحت تركيا في قلب الخسائر لمكاسب اقتصادية كبيرة بقليل من التفكير الاقتصادي وليس بالشعارات.

ولكن البديل عندنا هو بيع الأصول، حيث تم الإعلان عن تفاصيل صفقة صندوق الثروة السيادي في أبو ظبي للاستحواذ على أصول حصص مصر في البنك التجاري الدولي، وفي شركة فوري، وحصة في شركة أبو قير للأسمدة، وحصة في شركة موبكو للأسمدة، وحصة في شركة الإسكندرية للحاويات، وحجم المقرر دفعه مليارا دولار.

إنها أزمات مركّبة، أدخلت البلاد إلى النفق المظلم، فهل من حل؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان