“عبد الحليم حافظ” والأغنية الوطنية.. قصة حب ممتدّة

عبد الحليم حافظ

لم يتخلَّ عبد الحليم حافظ (عندليب الأغنية المصرية) عن الحب طوال مشواره الفني الذي بدأ مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، واستمر حتى 30 مارس/آذار 1977 حينما غاب حليم عن الدنيا في ظهيرة ذلك اليوم، ولكنه لم يغب ولن يغيب أبدًا، كما قال الإعلامي الكبير جلال معوّض حين قدّم مجموعة أغانيه الوطنية في الذكرى الخامسة لرحيله، بعدما أفرج النظام عن هذه الأغاني التي غابت بقرار سياسي في أواخر عصر الرئيس أنور السادات، وكأن معوّض -الإذاعي الذي ارتبط بحفلات أم كلثوم وحليم وليالي أضواء المدينة- كان يقرأ المستقبل، فلا غرابة حين تجد أغاني عبد الحليم حافظ الراحل منذ 45 عامًا تتردد على ألسنة الشباب، وتحقق مشاهدات عالية.

قصة حب

حين نتأمل علاقة عبد الحليم بالأغنية، لا يمكننا إنكار أثر ما قدّمه في الأغاني الوطنية، فلم يكن حليم صوت الحب والحياة والأمل لدى جيل كامل بدأ معه ومستمر حتى الآن فحسب، بل استطاع تحويل علاقته مع الوطن إلى “أغنية حب” طويلة، بدأت بأغنية (العهد الجديد) كلمات محمود عبد الحي وألحان عبد الحميد توفيق زكي عام 1952، واختتمها مع مصطفى الضمراني ومحمد عبد الوهاب في (المركبة عدّت) احتفالًا بإعادة افتتاح قناة السويس في مايو/أيار 1975.

لم يتخلّف عبد الحليم طوال مشواره عن الوطن وأحداثه، نصره وانكساره، آماله وخيباته، واستطاع أن يجعل من مصر معشوقته وحبيبته والحبيبة لنا جميعًا.

لقد جسّد حليم عشقنا لمصر والوطن العربي من المحيط إلى الخليج واقعًا ملموسًا أمامنا في أغنيات وكلمات وموسيقى، كان صدق حليم -فيها ومعنا- حاضرًا وأنت تستمع لتلك الأغنية الممتدّة ربع قرن من التاريخ.

انكسار الحلم والحبيبة.. لا نستسلم

لم يستسلم حليم لهزيمة الحبيبة، ففي صبيحة يوم الخامس من يونيو/حزيران 1967، دخل بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ وعبد الرحمن الأبنودي مبنى الإذاعة والتليفزيون، ليكوّنوا فريقًا إعلاميًا غنائيًا ضخمًا لم يتوقف عن الإبداع والإنتاج، حتى بعد إعلان هزيمة الجيش واحتلال الكيان الصهيوني لسيناء والجولان والضفة الغربية، فقدّموا قبل إعلان الهزيمة أغاني (راية العرب) و(بركان الغضب) و(ابنك يقولّك يا بطل) و(إنذار)، وعندما أُعلِنت الهزيمة أنشد حليم واحدة من أهم اغنياته الوطنية والعاطفية في حب الوطن، أغنية (موّال النهار) من كلمات الأبنودي وألحان بليغ حمدي.

عدّى النهار والمغربية جايّة

تتخفى ورا ضهر الشجر

وعشان نتوه في السكة

شالت من ليالينا القمر

وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها

جانا نهار مقدرش يدفع مهرها

كانت تلك الأغنية ما بين لحظة الانكسار والأمل في عبور الهزيمة والتصميم على الثأر من العدو الذي يغتصب الأرض العربية في فلسطين وسوريا ومصر والأردن.

لقد استطاع الثلاثي المبدع تصوير لحظة انكسار الوطن وميلاد أمل جديد، ولا تستطيع إلا أن تظل مبهورًا بهذا الأداء الفريد والصادق لعبد الحليم حافظ، وكأنه يناجي حبيبته التي هجرته وخذلته.

الأغنية.. بيان سياسي

كانت مرحلة عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين وكمال الطويل -تلك التي سبقت هزيمة يونيو- هي مرحلة الأغنية السياسية الثورية، واستطاع الموسيقار علي إسماعيل -الموزّع لأغاني تلك المرحلة- تحويلها بما تحمل من كلمات عميقة إلى أغنية تتردد في الشارع، ولا أبالغ إن قلت “أغنية حب”.

بكل حبي للحياة ولبلدي

وبكل بسمة فوق شفايف ولدي

وبكل شوق الفجر وشروقي

وبكل نبض الثورة في عروقي

جيت لك وأنا ضامم جراح الأمس

حالف لأرجع لك عيون الشمس

يا بلدي

هكذا كان يناجي حليم وطنه وبلده، وهكذا ناجته أجيال مثّلها حليم.

أما أهم ما استطاع الثلاثي تقديمه من حيث أداء كلام يصعب تقديمه غناءً، فكان في أغنية (يا أهلًا بالمعارك) تأمّل معي هذه الكلمات:

للأفراح والرفاهية

ح نمد طريق ع النيل

اسمه في الاشتراكية

التصنيع التقيل

بس نضاعف إنتاجنا

أضعاف أضعاف

وندبّر مهما احتاجنا

ونحارب الإسراف

وبقرش الادخار

نتحدى الاستعمار

ونقيم جدار جبّار

يحمي حياة العاملين

آدي نقطة بنقطة

جميع الخطة

وبالله نستعين

أنا هنا لا أناقش التجربة الناصرية، ولا مدى نجاحها أو فشلها، رغم إيماني الكامل بقيمها ومبادئها ومشروعها، ولا أرى أن “حليم وجاهين والطويل” كانوا يؤدون أغنيات عابرة من أجل الغناء، بل لديّ إيمان بأنهم كانوا يؤمنون بكل ما قدّموه، لم يزيّفوا مشاعر ولا كلمات ولا أداء، هذا الصدق الذي يجعل مشاعرك حتى الآن تبكي من صدق المحبة والإيمان (ستقول إنني رومانسي، يسعدنا هذا الوصف) لكني أناقش معك كيف تحولت تلك الكلمات إلى أغنية.

تأمّل معي الكلمات (التصنيع التقيل، قرش الادخار، جدار جبّار، حياة العاملين، جبل الجرانيت، انشق انشال، تحريرنا فلسطين) ثم اسمع أو استعد معي أداء حليم لهذه الكلمات.

الأمة العربية الموحدة

كانت الوحدة العربية -ولا تزال- حلمًا لكل من يرجو مجدًا لهذه الأمة، تلك المساحة الجغرافية الممتدة من الخليج إلى المحيط، وفي ظل تكتلات بأنحاء المعمورة، يظل الأمل لأمة تمتلك الدين والعقيدة واللغة والثقافة حلمًا متاحًا ونتمنى أن يصبح واقعًا.

وكان عبد الحليم حافظ من دعاة الحلم غناءً، فقدّم أغاني للأحداث العربية، بدأت من حرب فلسطين حتى حرب تحرير الجزائر، وفي استقبال العائدين من اليمن بعد ثورتها.

أما فلسطين، فقدّم بعد هزيمة يونيو أغنيته (المسيح) من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي، وهو الثلاثي الذي قدّم معظم الأغاني بعد يونيو 1967، وقدّم حليم (المسيح) للمرة الأولى في لندن خلال العام ذاته، في إطار حفلات المجهود الحربي.

تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب

دلوقتي يا قدس ابنك زي المسيح غريب

خانوه.. نفس اليهود خانوه

ابنك يا قدس زيّ المسيح

لازم يعود على أرضها

ومن الأغنيات التي قدّمها عن الأمة العربية الواحدة: أرض الجزائر والحبايب بالسلامة وطاير يا حمام (كان لي فرصة إعادة تصويرها لشركة عبد الحليم حافظ عام 1996، وهي أغنية عن لبنان) وأوبريت “الوطن الأكبر” مع مجموعة من كبار المطربين العرب: وردة الجزائرية وصباح ونجاة الصغيرة وفايدة كامل وشادية، مع ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب وكلمات أحمد شفيق كامل، وغنّي حليم الجزء الخاص عن فلسطين.

وطني يا زاحف لانتصاراتك

ياللي حياة المجد حياتك

في فلسطين وجنوبنا الساهر

هنكمّل لك حرياتك

إحنا وطن يحمي ولا يهدّد

إحنا وطن بيصون ما يبدّد

وطن المجد يا وطني العربي

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان