أسباب الرفض التركي المطلق للمشاركة في تطبيق العقوبات الدولية على روسيا

رغم إعلان تركيا رسميا موقفها الرافض للحرب الروسية على أوكرانيا، ووصفها إياها بأنها تشكل انتهاكا للقانون الدولي، ومطالبتها طرفيها بضرورة التفاوض عبر القنوات الدبلوماسية لحل الخلافات القائمة بينهما بعيدا عن المواجهة العسكرية، فإنها رفضت في الوقت نفسه المشاركة في حزمة العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن على روسيا، وهو أمر أثار دهشة في الأوساط الدولية التي اعتبرت هذا الرفض دعما غير مباشر من أنقرة لموسكو.
وقف إطلاق النار أهمّ
تركيا أوضحت على لسان وزير خارجيتها مولود شاووش أوغلو أنها لا تشارك في مثل هذه العقوبات من حيث المبدأ، وأنها لا تميل إلى المشاركة في حزمة العقوبات الجديدة أيضا، لكون ذلك سيؤثر سلبًا على الدول المشاركة فيها إلى جانب تداعيات ذلك السلبية على الاقتصاد الروسي، وأن الأهم الآن هو التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وإتاحة الفرصة أمام إجراء مشاورات سياسية لإحراز نتائج إيجابية تُنهي المواجهة العسكرية الدائرة التي تضر بمصالح دول المنطقة بأكملها.
عملية توازن صعبة تحاول الدبلوماسية التركية تطبيقها في تعاملها مع هذه الأزمة، في ظل تداخل مصالحها مع الجانب الروسي على وجه الخصوص. الأمر الذي يبدو أنه يقيد حركتها ويعيق اتخاذها موقفا حاسما تجاه هذه الحرب المدمرة، فهناك العديد من الملفات الإقليمية والدولية المتداخلة بينهما بدءًا من ملفي سوريا وليبيا، ومرورًا بملفي أرمينيا وأذربيجان، ووصولًا إلى ملفي بولندا وأوكرانيا بعد قيامهما بشراء طائرات مسيرة تركية من نوع “بيرقدار تي بي -2”.
الإصرار على عدم الانحياز
موقف تركيا الرافض للعقوبات على روسيا يستند في حقيقة الأمر إلى عدة حقائق سياسية واقتصادية وعسكرية وأخرى متعلقة بمجال الطاقة، فسياسيًّا تسعى أنقرة إلى عدم الانخراط في عملية التجاذبات الدولية الحادة التي تشهدها الساحة الدولية حاليًّا، مفضلة عدم الانحياز لطرف ضد الطرف الآخر، وهي بهذا تنتهج موقفًا مبدئيًّا يرتكز على تطوير علاقاتها بطرفي النزاع، وضمان استمرار حوارها السياسي معهما لإنهاء الحرب رغم وجود اختلافات في وجهات النظر بينها وبينهما.
هذا إلى جانب رغبتها في الحفاظ على مسار سياستها التي تنتهجها منذ فترة ليست بالقصيرة، الرامية لتعزيز مكانتها في مناطق تعتبرها روسيا بمثابة “حديقة خلفية” لها، كشرق أوربا والقوقاز وآسيا الوسطى، وتأكيد أن هذا الأمر يصب في مصلحة موسكو نفسها، حيث يمكن لأنقرة التعاون معها بوصفها حليفًا يُمكنه لعب دور الوسيط عند نشوب خلافات بينها وبين خصومها في تلك المناطق، مثلما هو حادث الآن في الحرب بينها وبين كييف. وترى تركيا أن أي عداء معلن مع موسكو من شأنه أن يضر بهذا المسار، ويُظهر أنقرة بمظهر المهدد للمصالح الروسية في هذه المناطق، الأمر الذي يمكن أن تكون له عواقب وخيمة سيكون من الصعب تداركها أو الحد من خسائرها.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم السبب الذي ارتكزت عليه أنقرة في امتناعها عن التصويت على قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس أوربا في الخامس والعشرين من فبراير/ شباط الماضي، حيث رأت أن هذا القرار سيُنهي حق روسيا في التمثيل داخل المجلس، ويخرجها من هذه المنصة الدولية الهامة، ويحرم مواطنيها من حق التوجه إلى محكمة حقوق الإنسان، وبالتالي فإن امتناعها عن التصويت سيضمن إمكانية استمرار الحوار بين موسكو والاتحاد الأوربي مهما كان حجم الخلاف بينهما.
العلاقات العسكرية
وعلى الصعيد العسكري ترتبط أنقرة مع موسكو بصفقة صواريخ أس-400 التي تسببت في أزمة عميقة بينها وبين حلف الناتو، وأحدثت شرخا لم يلتئم بعد في علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي قامت بإخراجها من عملية تصنيع طائرات أف-35، ولا تزال تداعيات هذا الأمر محلّ خلاف ونقاش بين الحليفين العضوين في الناتو، مما يعني أهمية الحفاظ على الحد الأدنى من التعامل مع الجانب الروسي، وعدم الدخول في عداء علني معه يجعلها تدفع ثمنا غاليا بخسارتها لجميع الأطراف ويضعها تحت رحمة واشنطن.
التعاون الاقتصادي والأزمة الداخلية التركية
اقتصاديًّا ارتفع حجم التعاون الاقتصادي التركي الروسي خلال السنوات الماضية بصورة كبيرة، وتعددت مظاهره، ويحتل مشروع خط الغاز الطبيعي المعروف باسم “السيل التركي” لنقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا مكانا بارزا في هذا المجال، وهو المشروع الذي يعتبره قادة الدولتين نموذجا عمليا لإمكانية التعاون بين الدول، ووسيلة ناجحة لتفادي الكثير من المشكلات، والتقريب بين وجهات النظر في القضايا الخلافية بينهما.
إضافة إلى هذا، فإن تركيا تعتمد في تلبية 70% من احتياجاتها من الغاز على الاستيراد من روسيا، إذ وصل حجم ما تم استيراده فعليا عام 2020 إلى أكثر من 33.6 مليار متر مكعب، من إجمالي استهلاك في العام نفسه وصل إلى أكثر من 48.1 مليار متر مكعب، مما يعني أن أي خلاف بينهما من شأنه التسبب في أزمة خانقة لتركيا، قد تتسبب في حدوث شلل تام لقطاع الصناعة التركي.
التعاون الاقتصادي التركي مع روسيا لا يقتصر فقط على قطاع الطاقة، فهناك أيضا قطاع السياحة، كما تعتبر روسيا سوقا هاما لتصدير المنتجات الزراعية التركية، وبالتالي يبدو من العسير على أنقرة الاصطفاف إلى جوار الدول التي أعلنت رسميا انحيازها إلى الجانب الأوكراني، والمشاركة الفعلية في تطبيق العقوبات الاقتصادية الجديدة التي تم فرضها مؤخرا على روسيا، خصوصا أن تركيا تعاني أزمة اقتصادية خانقة تسببت في انهيار سعر صرف الليرة، وارتفاع غير مسبوق في أسعار مواد الطاقة والسلع الغذائية الأساسية.
ورغم كل ذلك فإن تركيا دولة عضو في حلف الناتو، الأمر الذي يعني اضطرارها -إذا ما تصاعدت حدة الحرب الروسية على أوكرانيا- إلى الالتزام بقرارات الحلف، والتعامل مع روسيا وفق السياسات التي سيقرر انتهاجها لتقليم أظافر الروس، والحد من خطورتهم على مستقبل المنطقة.