صلاح عبد الله.. الشاعر الضاحك الباكي

رحم الله الدكتور صلاح عبد الله، الشاعر المصري الذي وافته المنية منذ أيام، وصلاح عبد الله ظل مجهولا لفترة في مصر رغم براعته في الشعر، ولم يعرف لدى الناس إلا بعد أن استضافه الشاعر عبد الرحمن يوسف في برنامجه على قناة سي بي سي بعد ثورة يناير مباشرة، وفوجئ الناس بقنبلة من الشعر العامي تنطلق، وتصيب الهدف سريعا. يجمع صلاح عبد الله في شعره بين الخفة في الأداء، والسرعة في التقاط الألفاظ والعبارات، والسخرية اللاذعة المضحكة، والوصول إلى قلب المتلقي وعقله، تركيبة غريبة كطبيعة صلاح رحمه الله.
الشاعر الكفيف
صلاح عبد الله كان فاقدا للبصر، ومع ذلك فهو لا يحب أن يكون ذلك تعريفا به، ولا يحب أن يصنف بين المكفوفين، ليس بغضا منه لما ابتلاه الله به، بل لتغلبه على هذا التحدي، وتحويله هذه المحنة إلى منحة، وقد ذكر أحد المواقع المصرية تعريفا به في خبر صاغوه كالتالي: الشاعر الكفيف صلاح عبد الله، فضايقه ذلك ليس للوصف، بل لأن الحديث كان عن شعره، فما علاقة بصره بالشعر، وهل بين البصر والشعر ارتباط؟ بالطبع لا، ولذا فلم يكن يرى أي أهمية لذكر أنه فاقد البصر، لأنه لا محل له من الإعراب في الحديث عن مواهبه وفكره وشعره، فهو شاعر، ولا ينبغي أن يقدم إلا من خلال شعره، فكما يقول ساخرا: إنهم يتحدثون عني، وكأنهم يجلسون بي على باب مسجد للتسول، ويقولها ضاحكا ساخرا، ثم يزيد فيقول: لو كنت أصم (أطرش) أو مشلولا، هل سيقولون: الشاعر صلاح عبد الله الأشل؟!
ومن تعامل مع صلاح سيجد فعلا أنه تعالى على مسألة فقد البصر، بتعويض ذلك بذكائه وبحواس أخرى، لا يشعر من يجالسه بأنه لا يرى، فإذا مشيت معه، وسمع صوت حذاء رجل أو امرأة، يخبرك على الفور: هذا رجل أو هذه مرأة وزنها لا يزيد على سبعين كيلوغراما، فتنظر فتجد ما قاله صوابا، تسأله: كيف عرفت؟ فيقول: عن طريق صوت كعب الحذاء، فمبعادلة رياضية يحسب في رأسه: علاقة الكعب، بالصوت، بالثقل، فيضرب ذلك كله فيحسب الوزن، ويكون صوابا!!
وكنا نمازحه ونقول له: غالبا سنفاجأ بعد سنوات من معرفتك، بأنك مبصر، وكنت تضحك علينا طوال هذه السنوات. فحكى لي مرة أن ابن أخته اتهمه بأنه يرى، فقد طلب من ابن أخته أن يعلمه اللعب على لعبة (الأتاري)، واستخدم صلاح ذكاءه مع الطفل فيما بعد، وربح اللعب معه، فانفجر ابن أخته صارخا: يا أمي، إن خالي والله العظيم يرى، ويضحك علينا، وهو يذكرك بشخصية: عرفة الشوّاف، في مسرحية: وجهة نظر، لمحمد صبحي.
صديق عمار الشريعي
كان صديقا مقربا من الموسيقار الراحل عمار الشريعي رحمه الله، وسألت صلاح عبد الله فقلت إن عمار الشريعي قال مرة في حوار: لا أريد أن يعود البصر إلي الآن، فهل تود أن يعود إليك بصرك الآن؟ فقال: لا، قلت له: إنها نفس إجابة الشريعي، فقال: نعم، لأننا أصبحنا نتصور الأشياء بتصور معين، القلم، الملعقة، الكتاب، كل شيء أصبح له تصور خاص بنا بعد فقداننا البصر، وهو بالتأكيد على خلاف الطبيعة بنسبة ما، فلو عاد إلينا بصرنا فسنعيش في لخبطة كبيرة لا يمكن أن تستقيم معها حياتنا، ماذا نفعل بقاموس حياتنا الذي سنضطر لتغييره كاملا، ونبدأ من الصفر؟!
بهذه البساطة والمفردات التي يتحدث بها صلاح على سجيته وفطرته، وفهمه للحياة، يقول الشعر. وقد كان صلاح يكتب الشعر الفصيح، ولكنه تحول إلى العامية لأنه أراد أن يصل بشعره إلى الجميع، ورؤيته لذلك: أن الفصيح لا يحسن قراءته إلا فئة معينة من القراء، لكن العامية يفهمها الجميع، وتصل إلى الجميع، وهو المطلوب.
ندر أن تجلس مع صلاح ولا تضحك، أو يمتلئ الحوار بالفكاهة، والبساطة، والمعلومات الغزيرة، فهو يقول الشعر كما يشرب ويأكل، يحدث موقف ما، فيفاجئك وأنت جالس بقصيدة، أو أبيات في الموقف، ويقولها لمرة واحدة، ويحفظها تماما كما لو كررها مائة مرة، فخفة الظل والروح المرحة حاضرة عنده دائما، حتى في أحلك اللحظات.
الإخوان الطازج
أذكر أول مرة التقيته فيها، فقد كنت في قناة الشرق، وجاء هو من مصر، وقال له الشاعر محمد طلبة رضوان وهو يعرفه علي: يا صلاح أنا أعرف أنه ليس بينك وبين الإخوان ودّ، سأعرفك بواحد منهم وهو شيخ أزهري، وبعد جلسة حوار سريعة، إذ به في نهاية الحوار يقول لي وللحاضرين: كيف تقولون عن عصام إنه إخواني، إنه ليس من الإخوان؟ فقلت له: أنا فعلا من الإخوان (وقتها)، فقال: لا، لست من الإخوان، قلت له: لم؟ فقال بلغة عامية: “أنت صابح (طازج)، ومن قابلتهم منهم ناس بايته، ليست طازه”. فضحكنا من تعبيره الذي لم يفكر فيه كثيرا، بل أطلقه كقذائفه الشعرية على البديهة والسرعة.
كان صلاح لا يُظهر للناس إلا ضحكه ومزاحه، بينما لديه ككل الناس آلام وأوجاع، ولكنه كانت تمنعه عزة نفسه من إظهار ذلك، فقد بكى أمه عند وفاتها، وآلمه أنها ماتت وهو خارج مصر، ولم يستطع حضور جنازتها أو عزائها، وقد كانت القائمة على أمره وشؤونه، بكاها كثيرا، لكن مع نفسه، وهكذا كان صلاح رحمه الله، لا يرى منه أصدقاؤه إلا السعادة والبهجة، أما حزنه فقد كان لنفسه، ونادرا ما ترى هذا الحزن في شعره، تراه وتحسه في شجنه وحزنه على حال مصر، وحال أهلها، وحال ثورتها، هو شجن ينم عن حزن دفين لديه، لكنه لا يتلبس به كثيرا، ففي ظل أبيات الشعر الحزينة الباكية، سريعا ما يخرج منها، ويغطي ذلك بحزن مسجى في ثوب الفكاهة، هكذا كان شعره، وهكذا كانت حياته.
ولمن لا يعرف صلاح عبد الله، فقد كان عالما بالأديان، وهو تخصصه الدقيق، مطلعا على الأديان، وقارئا نهما فيها، وكانت لديه غيرة على دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا يراها ولا يرصدها إلا من يقترب من صلاح، فحين ينال أحد من ثوابت الدين ترى صلاح عبد الله الساخر الفكه يتحول إلى شخص آخر، وقد حدثت معركة في غرف (البالتوك) على الإنترنت، ودخل بعض الأقباط يتهجم على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فحذرهم صلاح ونبههم ثم كرر ذلك فزادوا في إساءتهم، ففوجئوا بصلاح آخر غير ما يظنون، حيث قال قصيدة نارية على سجيته، وعلى الفور، تجمع بين السخرية والرد القوي، أخرستهم جميعا، فتحولوا لشتم صلاح نفسه، وكانوا يظنون أن تسامحه وفكاهته تسمح بالنيل من دينه، وأنه سيصمت على ذلك باسم التسامح، والفكاهة والمحبة. رحم الله صلاح وغفر له.