القيصر بوتين يتحدى العالم.. ولكن

توقع الكثير من المحللين السياسيين الأمريكيين أن العالم على أبواب حرب باردة جديدة، لكن بوتين لم يقنع بالبقاء في مجال الحرب الباردة، بل تمكن من أن يحولها على حرب ساخنة استخدم فيها قوته الغاشمة.
قبل غزوه لأوكرانيا كانت التوقعات تدور حول اكتفاء بوتين بالتهديد، لكن ذلك يطرح الكثير من الأسئلة ومن أهمها: هل فقدت أمريكا قدرتها على استشراف المستقبل بالرغم من أنها تملك الكثير من الجامعات ومراكز البحوث والتفكير، وبالرغم من القدرات الهوليودية للمخابرات المركزية الأمريكية؟!! وهل انشغل الغرب بالحرب على الإرهاب طوال العشرين عاما الماضية حتى فقد قدرته على توقع الأخطار التي تهدده، وأعطى بوتين الفرص لكي يفكر في بناء إمبراطوريته، ويصبح القطب الثاني الذي يدير الصراعات العالمية، ويغير الواقع الذي احتلت فيه أمريكا مكانة القطب الأوحد؟!
لحظة مواجهة الحقيقة
أصبح على أمريكا أن تواجه الحقيقة، وهي أن انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفيتي لم يكن نتيجة لقوتها، أو لكفاءتها في إدارة الصراع، ولم يكن انتصارها في تلك الحرب نهاية التاريخ كما تصور فوكوياما، وسار خلفه الكثير من المفكرين الأمريكيين.
كما أصبح على أمريكا أن تدرك أن انتصارها في حرب لا يعني أنها يمكن أن تنتصر في الحروب التالية، أو أنها يمكن أن تتحكم في إدارة الصراعات العالمية.
كما أن أمريكا لم تدرك بعد أن بوتين استأنف الصراع، وأنه يطمح لبناء إمبراطورية ليصبح القيصر الجديد.
وكانت الديمقراطية سلاح أمريكا!
في مقاله بجريدة الواشنطن بوست يقول مات باي: “إننا انتصرنا على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة لأننا كنا على حق، إذ إن الديمقراطية أفضل من الطغيان السوفيتي.
ولكي ننتصر مرة أخرى لا بد من أن ندافع عن الديمقراطية، وأن نلتزم بالدفاع عن حرية الرأي، والمناقشة المدنية والقانون والقيم ضد الديماغوجية والتضليل.. لكن الحقيقة أننا لسنا مستعدين الآن لذلك!”
ولكن لماذا لا تستطيع أمريكا أن تقوم بهذا الدور، وتنتصر على الطغيان الروسي بالدفاع عن الديمقراطية؟!
لم يحاول مات باي أن يجيب عن السؤال، ويكشف للجمهور الأمريكي الحقيقة، وهي أن أمريكا تخلت عن قضية الديمقراطية، وقامت بانتهاك حقوق الشعوب، ومساندة الانقلابات على التجارب الديمقراطية التي تمكنت الشعوب من إقامتها، وحالة مصر توضح ذلك. فأمريكا خططت للانقلاب وصنعته لأن الذين وصلوا إلى الحكم بالديمقراطية، وعبروا عن إرادة الشعب هم الإسلاميون الذين يعملون لتحقيق الاستقلال الشامل، وكسر التبعية لأمريكا، ويرفضون هيمنة الكيان الصهيوني على منطقة الشرق الأوسط.
لذلك، هل من حق أمريكا أن ترفع راية الديمقراطية وتدافع عنها، وهل تستطيع أن تتقدم لحماية حرية الشعوب وإرادتها في اختيار حكامها ونوابها وبناء نظمها المستقلة؟!!
إن ذلك هو السلاح الوحيد الذي تستطيع أمريكا أن تستخدمه في مواجهة دكتاتورية بوتين وطغيانه وطموحه لبناء الإمبراطورية القيصرية، واحتلال أوكرانيا كمقدمة لتهديد أوربا وحلف الناتو.
يضيف مات باي جانبا آخر هو أن بوتين ساهم في إضعاف الديمقراطية داخل أمريكا نفسها، حيث ساهم في وصول ترامب إلى الحكم، وقد رفع ترامب شعار “أمريكا أولا”، فهل يختلف هذا الشعار عن مقولة بوتين “لماذا نحتاج إلى العالم إذا لم يكن لروسيا مكان فيه؟”. فهل استطاع بوتين أن يضعف قوة أمريكا التي تقوم على الديمقراطية قبل أن يحقق أحلامه الإمبراطورية، ويقوم بغزو أمريكا وتهديد أوربا؟ وهل يستطيع بايدن أن يعيد لأمريكا المصداقية في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
الطغيان الأمريكي والدعاية
يقول مات باي: إن أمريكا الآن في نظر بوتين لا تختلف عن روسيا، فهي ليست أمريكا التي انتصرت في الحرب الباردة، حيث أصبحت تقوم على الطغيان والدعاية، وتفتقد القيم الأخلاقية التي تمكنها من تحقيق النصر مرة أخرى، وبالتالي فإنها لا تستطيع مواجهة طموحات بوتين واستخدامه القوة الغاشمة، فلقد بالغت أمريكا في استخدام القوة ضد الشعوب في العراق وأفغانستان، وقامت بعمليات إبادة كتلك التي يقوم بها بوتين في غزوه لأوكرانيا، وأمريكا قتلت الملايين فهل تملك المبررات الأخلاقية لمواجهته، وهو يقوم بإبادة الأوكرانيين؟!!
يضيف مات باي: “إن الخيار الوحيد أمام أمريكا الآن هو أن تعمل لاسترداد الحريات حول العالم وحمايتها، وتدير الصراع بين الديمقراطية والسلطوية”.
لكن أمريكا لن تكون قادرة على استخدام الديمقراطية سلاحًا ضد الطغيان الروسي، ولن تتمكن من مواجهة طموحات الدكتاتور بوتين، إذا لم تبذل جهدا لاستعادة مصداقيتها في احترام حقوق الشعوب في بناء نظمها الديمقراطية المستقلة.
خطاب بايدن الضعيف!
لكن خطاب بايدن في مواجهة طغيان بوتين كان ضعيفا، ولا يتناسب مع خطورة النتائج السلبية للغزو الروسي لأوكرانيا على الغرب كله، بالرغم من أن بوتين قدم له فرصة تاريخية لإثبات قدرته على قيادة أمريكا والغرب في هذه الفترة من التاريخ.
ولقد كان العالم ينتظر خطاب بايدن، لكن من الواضح أن خيبة الأمل أصابت نفوس كل من تابعوه، وأن خطابه أثار سخرية الذين كانوا يتوقعون أن يتخذ إجراءات تحمي أمريكا. وربما يكون حلفاء أمريكا أكثر من شعروا بخيبة الأمل، حيث أدركوا أن أمريكا عاجزة عن حمايتهم، أو حتى مساندتهم عندما يتعرضون لتهديد، فهم جميعا أقل أهمية من أوكرانيا.
يقول مايكل جيرسون -في مقاله المنشور بجريدة الواشنطون بوست- إن بايدن يمكنه أن يستغل الجنون الروسي والبطولة الأوكرانية لبناء صورته وسمعته، لكنه لم يستطع أن يقدم لأمريكا وللعالم موقفا قويا من حدث خطير يهدد العالم كله. غير أن جيرسون يوجه اللوم إلى كاتب خطابات بايدن الذي لم يستطع أن يستخدم عبارات كاشفة للمستقبل.
لكن هل يمكن توجيه اللوم إلى كاتب الخطابات إذا كان بايدن يفتقد القدرة والقوة على مواجهة بوتين الذي قرر أن يستخدم قوته الصلبة الغاشمة في تحدي أمريكا، وكشف ضعفها، ودفعها إلى الانكفاء على نفسها، وإظهار عدم قدرتها على خوض حروب جديدة.
إن الحقيقة التي أصبح بوتين يدركها هي أن الشعب الأمريكي يرفض الحرب بعد أن تعرضت أمريكا للهزيمة في أفغانستان؛ لذلك يفرض بوتين على أمريكا أخطر خيار تواجهه في تاريخها، وإذا لم تستطع مواجهته فإن حلفاءها سيفقدون الثقة فيها، وبالتالي ستفقد أمريكا مكانتها الدولية، وقدرتها على إدارة الصراعات.
إن أمريكا ما زالت تمتلك الكثير من عناصر القوة، لكن هل تمتلك الإرادة والرغبة في استخدامها؟
يبدو الامتحان عسيرا، وربما يكون بايدن عاجزا عن الإجابة عن هذا السؤال، وغزو روسيا لأوكرانيا سيكون له تأثيره السلبي حتى على الأوضاع الداخلية في أمريكا.
تدمير السلام في أوربا
هل يدرك بايدن أن السلام في أوربا كلها يتعرض للخطر، وأن بوتين يهدد الأمن الأوربي بعد أن أوضح أن أوربا العجوز عاجزة عن مواجهته، وعن استقبال اللاجئين من أوكرانيا؟
ولقد جاءت تهديدات بوتين باستخدام قوته النووية لتشكل حالة رعب تجتاح أوربا، وقد توقع بعض قادة أوربا أنهم سيواجهون أياما أكثر سوادا من تلك التي شهدتها بلادهم خلال الحرب العالمية الثانية، فلقد وصف الرئيس الفرنسي ماكرون الغزو الروسي لأوكرانيا بأنه نقطة تحول في تاريخ أوربا.
وربما يكون هذا الغزو نقطة تحول في تاريخ العالم كله، فبعد تلك النقطة يمكن أن تنتهي حالة الاستقرار التي عاشتها أوربا.
وفي الوقت نفسه فإن هذا الغزو قد يؤدي إلى كارثة لروسيا نفسها، فمن السهل أن يدخل بوتين الحرب، ويشن عدوانه على أوكرانيا ويدمرها، لكنه بالتأكيد لا يعرف كيف ينهيها ويخرج منها، وإذا كان ضعف أمريكا يتضح تدريجيا، وكانت تفقد مكانتها باعتبارها قوة عظمى، فإن طموحات بوتين القيصرية يمكن أن تؤدي إلى تدمير روسيا، وانفجار الصراع داخلها بين الشعوب المختلفة، وأن تزيد طموحات تلك الشعوب للاستقلال عن روسيا.
الأيام القادمة ستقدم الكثير من المفاجآت التي عجز علماء استشراف المستقبل عن توقعها لأنها ستغير الواقع العالمي.
إن صواريخ بوتين التي وجهها إلى أوكرانيا ستصيب شظاياها النظام العالمي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية، وستفتح أمام الشعوب الأبواب لمرحلة جديدة من الكفاح ضد الطغيان والاستبداد، فمن المؤكد أن العالم يحتاج إلى إعادة المصداقية للديمقراطية لكي يتمكن من مواجهة طغيان بوتين والانتصار عليه. ولكن هل نستطيع اكتشاف الفرص التي يتيحها هذا الصراع الذي انفجر فجأة، ويبدو أنه سيستمر سنوات قادمة؟