مراوغة الصين في غزو أوكرانيا!

احتفظت الصين بمنزلة رفيعة لدى شعوب العالم الثالث وبخاصة العرب، منذ تأسيس تجمّع دول عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ بإندونيسيا عام 1955، بمشاركتها مصر والهند ويوغسلافيا في حماية الدول النامية من ويلات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والغرب.
انكبت الصين على ذاتها أعوامًا في إطار صراع داخلي على السلطة، وحروب إقليمية تورطت فيها بعد تحالفها مع الاتحاد السوفيتي لمواجهة الغرب ودول الجوار. لم تجنِ الصين من تلك الحروب العقائدية، إلا المزيد من المجاعات والفقر.
يعترف الصينيون بأن زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى بيجين عام 1972، غيّرت ميزان القوى المتصور للحرب الباردة، لكنهم يفتخرون بأنهم “وراء تغيير الحسابات الاستراتيجية لكل من الاتحاد السوفيتي والغرب في فيتنام، بما أدى إلى انتصار أمريكا في الحرب الباردة”، ثم سقوط جدار برلين وتشرذم إرث الإمبراطورية الروسية في آسيا وأوروبا.
يعتز الصينيون بقيادتهم تكتل الدول النامية في الأمم المتحدة، وبما تحمله بلدهم من إرث في الدفاع عن حق الشعوب في الحرية والاستقلال، وعدم الاعتداء على أراضي الغير بالقوة، لا سيّما بعد حصولها على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.
تبدلت أحوال الصين فتغيرت انحيازاتها، ومع ذلك فما زال البعض ينظر إليها نفس النظرة الرومانسية القديمة، ولم يلحظوا أنها لم تعد تضعهم في حساباتها إلا بقدر مكاسبها. جاء الغزو الروسي لأوكرانيا، ليكون أفضل توقيت يعكس مواقف الصين الجديدة، المتناقضة مع مبادئها. كان الانحياز في الماضي إيجابيًّا لصالح الدول الضعيفة والفقيرة، اليوم توجه الصين انحيازها الزائف إلى روسيا في أوكرانيا، كما فعلت من قبل في سوريا، بدعم بوتين قبل الحرب وأثناء اقتحامه الأراضي الأوكرانية، وقتله آلاف المواطنين وملاحقة الفارّين إلى دول الجوار بالطائرات والصواريخ.
يتحالف شي مع بوتين ضمن فريق “الأنظمة الاستبدادية”، في إطار مبدأ “عدو عدوي.. صديقي” ليتولى المهووس بالعظمة والسلاح النووي كسر شوكة جارة له لم تعتدِ يومًا على أرضه. مع اشتداد الحرب وفعالية العقوبات الدولية -التي ستؤثر حتمًا على الصين بصفتها الشريك التجاري الأول لروسيا وأوروبا وأمريكا منذ سنوات- عادت الصين إلى المراوغة. فعلت الصين ما قام به قادة عرب، بمحاولة الرقص على الحبل المشدود بين الجبهتين المتصارعين، ثم تبدلوا حينما جاءهم أمر الاتحاد الأوربي والدول السبع الكبار، بأن يحددوا موقفهم ” أنتم معنا أم علينا؟!”.
أشباه بوتين “العظيم”
توقف شي عن الكلام، بينما رجاله يعلنون أن الصين التي تعارض توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا، ترفض المساس بسيادة الدول، وفي الوقت نفسه انتشرت جوقته من أعضاء فريق “الذئاب المحاربة” وأشبال الحزب الشيوعي المشهورين بـ”الزنابق الصغيرة”، يدافعون عن العدوان الروسي. ظهر الموقف الصيني مرتبكًا أمام الاعلام الدولي، وفاضحًا في الصحف وشبكات الإنترنت المحلية. لا يعلم شي أن الصحافة مرآة السلطة إذا أدارها نظام فاشي، وتعكس قيم المجتمع إذا حلت به حياة ديمقراطية.
رأينا المراوغة الصينية في ما أدلى به رجاله بالخارج، وهو ما وقع فيه صديقي السفير السابق بمصر ولندن (ليو شياو منغ) عبر تغريدة له على تويتر، حينما قال “إن موقف الصين واضح من الأزمة الأوكرانية، بضرورة احترام سيادتها الوطنية”. في الوقت ذاته، قالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية للصحفيين “لماذا نسمّى ما يحدث في أوكرانيا غزوًا؟!”.
بعد خراب أوكرانيا ووصول آثار الحرب المدمرة إلى داخل الصين، بدأت بيجين مراوغة أخرى، بمعارضتها إدانة “العدوان الروسي” مع دعوتها إلى “وقف القتال”، ورغبتها في الوساطة بين المتحاربين!
بين الضحية والجلاد
لو نظر بوتين إلى مواقع الإنترنت الصينية والعربية لشعر بالراحة، رغم تهديده العالم باستخدام السلاح النووي إذا فكر أحد في تحدّيه. فالصينيون يلقبّونه “بوتين العظيم” وحصل خطابه ليلة غزو أوكرانيا على مليار و100 مليون مشاهدة، بدعم من القوميين المتعصبين وصحف رسمية.
هؤلاء -وإن خفت حدة أقوالهم منذ يومين وسكوت “الذئاب المحاربة”- يعتبرونه “ضحية للعدوان الغربي”، تمامًا كما يردد ذلك بعض العرب الذين لا يفرقون بين الضحية والجلاد، وإن اتفقنا على رفضنا شخصية رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي صهيوني الهوى والهوية.
فريستا الدب والتنين
الآن ينظر بوتين بحسرة إلى حليفه المراوغ الذي منحه دعمًا قويًّا وتحالفًا استراتيجيًّا، يوم اجتماعهما الشهير قبيل انطلاق أولمبياد بيجين الشتوية في الرابع من فبراير/شباط الماضي. اعتقد بوتين أن تأجيله الغزو إلى ما بعد الأولمبياد، سيدفع شي إلى غزو تايوان في نفس الموعد الذي يدخل فيه الروس أوكرانيا، ليضعا معًا العالم أمام خيارين: إما حرب عالمية ثالثة، أو يفوز الدب الروسي والتنين الصيني بالفريستين.
كشفت الأحداث سذاجة بوتين في معرفته بالمراوغ الصيني الذي كان على دراية بما سيفعله الروس، حيث طلبت منه واشنطن إبلاغ موسكو بالمعلومات التي لديه بشأن الحشود التي تستهدف الغزو، و”رفض التدخل مرارًا”.
ستعود الصين إلى المراوغة، بتغيير لهجتها، على أمل أن يعيد “المرشد الأعلى” تايوان بالقوة أو طواعية، في وقت يناسبه، لأن (شي) مصمم على خلق نظام جديد، ينفذه بالإكراه والتخويف، وليس التعاون والتناغم والسلام الذي روجت له الصين قبل وصوله إلى السلطة.