نحن لا نزرع القمح!

عشت طفولتي وصباي وسط الحقول والمزارع، عملت فيها صاحب أرض مزارعا وحاصدا. أتذكر أني ظللت مرتبطا بالأرض ومهنة الزراعة حتى سنواتي الجامعية الأولى، في طفولتي البعيدة في سبعينيات القرن الماضي كنت ملاصقا لأبي وكل أهلي الذين كانوا يزرعون الأرض، عشت لحظات زراعة القمح في أرضنا وليالي حصاده، ودريس القمح، فصلت القمح عن بقايا الدريس (التبن، نطلق عليه هذا الاسم).
ارتبط عندي حصاد القمح بأغنيات مثل أغنية (القمح الليلة ليلة عيده.. يارب تبارك تبارك وتزيد) وأغاني أخرى للمطربة الصاعدة في ذلك الوقت عفاف راضي وأغاني للمطرب محرم فؤاد.
ليالي الحصاد في القرى
في ليالي الحصاد القمرية وغير القمرية كنّا نسهر الليل ونبيت بجوار القمح محصولًا ومحصودًا، شببت قليلًا وفي نهاية السبعينيات ظهرت أنواع جديدة من الزراعات بعد أن كنّا نزرع القمح والذرة البيضاء، والذرة الصفراء، والفول، والبرسيم (علف الحيوان)، إذ ظهرت في الأفق فكرة زراعة الخضراوات والفراولة والكنتالوب، بديلًا للزراعات الرئيسية التي كنّا نقوم بزراعتها، جاهدنا كثيرًا مع أبي وأهل قريتي لنظل على زراعتنا للقمح والذرة فهي عصب المنازل بالقرى، ولكن لأسباب لا أعلمها في ذلك الوقت اختفي القمح من أراضي قريتي، وصار المنتج الرئيس للقرى حولنا هو الخضراوات، وأظن في هذا التوقيت قلت زراعات القطن والذرة. أصابني حزن كبير لتوقف زراعة القمح.
كيف استبدلنا القمح والقطن بالخضراوات والفراولة والكنتالوب؟
سنوات قليلة وصارت فكرة الاستغناء عن زراعة القمح باستيراده واقعًا مريرًا، صرت أنظر لصحرائنا الممتدة بطول الوطن وعرضه كأنها لا تعني شيئا، وذهبت في سنواتي الجامعية إلى مركز البحوث باحثا عن طريق للخروج من مأزق القمح، وحنينا إلى أيام جميلة، وفي مركز البحوث وجدت الآلاف من البحوث التي لم تنفذ، أبحاث في مختلف مجالات الحياة، الزراعة والصناعة والكهرباء، والثروة السمكية والحيوانية، إذن أين المشكلة؟
مشهد سينمائي
تذكرت مشهدًا سينمائيًا من فيلم ليلة سقوط بغداد من تأليف وإخراج محمد أمين إنتاج 2008، حينما جاء وفد من الولايات المتحدة ليفاوض البطل على اختراعه الذي صممه ليكون غطاءً جويا يمنع أي طائرات عسكرية من الاقتراب من السماء المصرية في جلسة التفاوض عرض عليه المفاوض الأمريكي أي قيمة مادية لاختراعه ولكن بطل الفيلم طارق (لعب دوره الفنان أحمد عيد) رفض العرض فسأله المفاوض: ها توديه فين؟ أجابه: سأذهب به لكل المؤسسات الوطنية.
قال له: لن تجد أحد يسمع لك فقد زرعنا على رأس كل مؤسسة من يرفض أي مشروع يخدم هذه البلاد ونهايتك إما مقتولا أو في مستشفى المجانين.
في المشهد التالي كان بطلا الفيلم في مستشفي المجانين، فهل من استبعد أبحاث علمائنا في مراكز البحوث المصرية من رجال المفاوض في فيلم (ليلة سقوط بغداد)؟!
أبحاث أحمد مستجير في القمح
تعرفت إلى أبحاث الدكتور أحمد مستجير عن زراعة القمح في الصحراء الذي بدأ في عام 1989 بمساعدة عدد كبير من المتخصصين في مجال الزراعة، هي استنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف بهدف الاستفادة منها في زراعة صحراء الدول النامية.
استفادت دولة الهند من أبحاث «مستجير» حول زراعة القمح بواسطة مياه البحر مباشرة دون تحليتها، ولم تضف لها كثيرا، وتحولت من دولة مستوردة للقمح حتى منتصف التسعينيات، إلى مصدرة له عام 2004 بعد أن حققت الاكتفاء الذاتي لشعب قوامه 1.3 مليار نسمة. كما تقوم الصين أيضا بزراعة الأرز بمياه البحر.
وللدكتور مستجير مشروعات أخرى تغير خريطة الاقتصاد المصري ولكنها حبيسة الادراج ومنها زراعة ملاحات كنج مريوط بالأرز ” الطافي ” المزروع فى اليابان والفلبين.
فلماذا لم تطبق ابحاثه الخاصة بزراعة الأرز والقمح والذرة بالمياه المالحة في مصر حتى الآن في ظل ندرة المياه؟
التبعية وزراعة القمح
لماذا لا نزرع القمح؟ هل نتيجة التوجه نحو الولايات المتحدة والصلح مع الكيان الصهيوني الذي قام به الرئيس المصري محمد أنور السادات بزيارة القدس عام 1977؟ هل هي شروط صندوق النقد الدولي للدول التي يقرضها؟ هل نعجز عن حل المعضلة؟
طرحت الحرب التي بدأت منذ عشرة أيام بين روسيا وأوكرانيا وما تلاها من توقف حركة الطيران مع تزايد الاحتمالات باستمرار هذه الحرب مدة طويلة الأسئلة حول مصير استيراد القمح لمصر فما إن بدأت الحرب حتى ارتفع سعر الدقيق، وتلاه ارتفاع سعر رغيف الخبز، وشهدت الأسواق ارتفاع أسعار سلع أخرى، وتعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر موردي القمح لمصر فماذا نحن فاعلون؟
هل نتجه إلى أبحاث الدكتور أحمد مستجير وتلاميذه الذين يطرحون الآن زراعة أنواع من القمح يحصد في مدة أقل بشهر من القمح المعتاد، ويمكن زراعته على مياه الأمطار في صحراء مصر؟
السودان هل هو البديل العربي والمصري؟
منذ سنوات تناولت الصحف خبرًا عن زراعة القمح في صحراء المملكة العربية السعودية وفرحت جدا، ربما نستورد القمح من السعودية بديلا عن روسيا وأوكرانيا، لماذا لا تتفق مصر مع السودان بأرضه الخصبة لزراعة القمح ونستورد من السودان الشقيقة بديلا عن روسيا وأوكرانيا؟ أليست أرض السودان مثل الأراضي الأوكرانية في خصوبتها؟ لماذا لا نزرع ملايين الأفدنة الخصبة في السودان وسوريا والعراق لنكتفي من غذائنا، ونحن نملك الأرض والمياه والأيدي العاملة والثروة البشرية والأبحاث والباحثين؟ أم نحن لا نزرع القمح؟ وإلى متى نظل رهن الآخرين؟