المعارضة التركية ورحلة البحث عن رئيس للجمهورية
رغم بدء العد التنازلي لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية المقررة منتصف العام المقبل، فإن أحزاب المعارضة لا تزال تتخبط باحثة عن الشخصية المؤهلة للترشيح لخوض ذلك السباق ومنافسة الرئيس أردوغان المرشح الرسمي لتحالف الشعب، الذي يضم حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية.
تبحث المعارضة عن شخصية ذات سمات خاصة، تمنحها القدرة على الصمود والتحدي في منافسة عسيرة، شخصية لها سجل سياسي نظيف، وباع طويل في ممارسة العمل الحزبي والشعبي، والقدرة الفائقة على الخطابة وإلهاب حماس الجماهير، والأهم من هذا أن تحظى بموافقة جميع الأحزاب المنضوية تحت تحالف الأمة الذي يضم الشعب الجمهوري، والجيد، والمستقبل، والسعادة، والتقدم والديمقراطية، والديمقراطي.
ولهذا السبب بدأت لقاءات منذ شهور عديدة وعقدت سلسلة من اللقاءات الثنائية والاجتماعات المشتركة بين قيادات هذه الأحزاب، بهدف التوافق على شخصية بعينها لتتولى هذه المهمة، التي يدرك الجميع مدى صعوبتها.
كيليشدار أوغلو والفرصة الأخيرة
رحلة طويلة طُرح خلالها الكثير من الأسماء والشخصيات السياسية، بدءًا من كمال كيليشدار أوغلو زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري، الذي رأت الأمانة العامة لحزبه أن الوقت قد حان ليقطف الرجل ثمار عمله بكل همة ونشاط باعتباره زعيمًا للمعارضة، وأن هذه المرة هي فرصته التي ربما تكون الوحيدة والأخيرة لاعتلاء سدة الرئاسة في البلاد، وإعادة مجد حزب مصطفى كمال أتاتورك، خصوصا أن العديد من استطلاعات الرأي التي تقوم بها المراكز البحثية المتخصصة، بناءً على طلب الحزب، تفيد بأنهم في أوج تألقهم، وأن فرص نجاحهم تتخطى جميع التوقعات، بعد نجاحهم في الانتخابات المحلية الأخيرة، واقتناصهم أهم المدن التركية وأكثرها تأثيرًا في نتائج أي انتخابات أو استحقاقات سياسية مقبلة، وهي إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا.
ومن هذا المنطلق ولكونهم حزب المعارضة الرئيس فيجب أن يخرج المرشح الرئاسي منهم، وليكن رئيس الحزب نفسه، وكأن الحزب بهذا الطرح يسعى لمكافأته على ما قدمه خلال السنوات الماضية للمعارضة، والعلمانية، ولتيار اليسار على وجه العموم.
لكن المخاوف التي أبداها حزب الجيد شريكه في التحالف لهذا الطرح، خوفًا من الفشل، وإعلانه رسميا رفض دعم ترشيح شخصية تشير استطلاعات الرأي إلى احتمال فشلها، جعل كيليشدار أوغلو نفسه مترددا في القيام بهذه الخطوة، خشية أن ينسف ترشحه وفشله في مواجهة الرئيس أردوغان كل ما سبق أن حققوه من نجاحات.
ومن هنا بدأت مرحلة البحث عن شخصيات أخرى داخل الشعب الجمهوري أيضا، الذي يريد أن يستأثر بهذا المنصب، مما شجع ميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد على طرح اسمَي أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة باعتبارهما شخصيتين لديهما حضور جماهيري وذكاء وقدرة على المنافسة، ليخوض أحدهما هذا السباق الرئاسي، خصوصا أنهما كانا حصانَي سباق الانتخابات المحلية، ونجحا في الفوز على مرشحي تحالف الشعب.
أكرم إمام أوغلو مرشح أكشينار المفضل
ورغم طرح أكشنار هذين الاسمين فإنها بشكل شخصي أعلنت صراحة ترجيحها لأكرم إمام أوغلو، ودعمها المطلق له، لكونه لا يزال شابا ولديه الجُرأة الكافية للمواجهة إلى جانب قدرته على تصدر المشهد الإعلامي واجتذاب المؤيدين لما يتمتع به من شخصية ذات كاريزما لافتة، والأهم من كل هذا أنه يرأس بلدية إسطنبول أي يمتلك في حوزته 54% من أصوات الناخبين البالغ عددهم حوالي 11 مليون ناخب، وهي النسبة التي أوصلته لرئاسة بلديتها، وهي نسبة كبيرة لا يمتلكها غيره.
فالمرأة الحديدية كما يطلق عليها الإعلام التركي ترى أن خسارة العدالة والتنمية لبلدية إسطنبول تعني تلقائيا انخفاض شعبية الرئيس أردوغان نفسه، لكونه رئيس الحزب وأهم شخصية فيه، ورفض مرشحه لرئاسة إسطنبول يعني رفضا جماهيريًّا له شخصيًّا.
لكن حزب الشعب الجمهوري رفض مقترح أكشنار رفضًا قاطعًا بحجة أن هذا الترشيح مجازفة حقيقية وتضحية برئاسة بلدية إسطنبول، في حال فشل إمام أوغلو، مما يعني تسليم المدينة على طبق من ذهب للعدالة والتنمية لكونه صاحب أكبر عدد من البلديات.
داود أوغلو واعتراض الشعب الجمهوري
وبهذا الرفض بدأت مرحلة جديدة من المعاناة للبحث عن اسم آخر يلبي المواصفات المطلوبة، وتنتشر التخمينات عن إمكانية ترشيح أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق رئيس حزب المستقبل، وهو ما دعمه كل من أحزاب السعادة، والديمقراطي، والتقدم والديمقراطية، إلا أن هذا الطرح واجه اعتراضا شديدا من جانب الشعب الجمهوري، فكيف يمكن لحزب علماني يساري مثله أن يؤيد ترشيح رجل ذي خلفية إسلامية، وأحد أبرز قيادات العدالة والتنمية السابقين، لرئاسة الجمهورية التركية، مع احتمالات إمكانية فوزه، مما يعني أنهم أوصلوا بأيديهم نسخة أخرى من أردوغان إلى القصر الجمهوري.
وهنا يبرز اسم الرئيس السابق عبد الله غول ليكون مرشحا توافقيا، لا خلاف عليه، يتمتع بسمعة طيبة، ولديه جماهيرية لا يمكن إنكارها، وأثبت خلال فترة رئاسته السابقة للبلاد عدم تحيزه لتيار بعينه، كما أنه لم يقم بتأسيس حزب سياسي بعد انتهاء فترة رئاسته، مما يعني زهده في السلطة، إلى جانب إمكانية استثمار خلافه مع أردوغان لضمان تعاطف الجماهير معه والتصويت له. إدراك غول لهذا الهدف الذي تسعى له المعارضة جعله ينأى بنفسه عن الدخول في هذه اللعبة، خاصة أن المعارضة تُصر على إعادة منصب رئيس الجمهورية شرفيا كما كان من قبل، مع سعيها لإقرار النظام البرلماني للحكم.
طرح سيناريو اختيار رئيس المحكمة الدستورية مجددا
لتدخل المعارضة في دوامة جديدة تتسم بالتخبط جعلتها تطرح أسماء لشخصيات عامة بعيدًا عن الشخصيات السياسية المعروفة، للخروج من المأزق، خصوصا أن الوقت يمر ولم يتم التوافق على اسم محدد حتى الآن، وهو الأمر الذي أوضح مدى عمق الأزمة التي تواجهها، والهوة السحيقة في وجهات النظر بين أحزابها، واختلاف أهدافها، فالجميع في نهاية المطاف يسعى لتحقيق مكاسب محددة، ولن يرضى أحد منهم بالخروج صفر اليدين.
وفي محاولة لإنهاء هذه الأزمة اقترح البعض اسم هاشم كيليتش رئيس المحكمة الدستورية لخوض السباق الرئاسي، وهو نفس السيناريو الذي سبق أن لجأت إليه أحزاب المعارضة عام 2000 حينما فشلت في التوافق على شخصية سياسية تحل محل الرئيس الراحل سليمان ديميريل، وتم ترشيح أحمد نجدت سيزار رئيس المحكمة الدستورية، لينتخبه البرلمان آنذاك رئيسا للجمهورية حتى 2007.
لكن التصريحات خرجت سريعًا لنفي صحة هذا الطرح، الذي يبدو أنه كان الحل الوحيد للخروج من دوامة البحث والتنقيب عن شخصية توافقية تدعمها الأحزاب الستة مجتمعة، ويبدو أن الخوف من الظهور أمام الناخبين بمظهر العاجز، وافتضاح حجم الخلافات بينهم وخروجها إلى العلن، مما يعني فشلهم في تخطي مسألة اختيار مرشح لرئاسة الجمهورية، ويثير تساؤلات حول طبيعة إدارتهم للبلاد إذا قدر لهم وفازوا، كان السبب وراء هذا النفي.
وهكذا عاد الجميع إلى المربع الأول، وطرح اسم منصور يافاش مرة أخرى لخوض السباق، لكن ذلك -على الأغلب- لن يكون نهاية المطاف، إذ يبدو أن حالة التخبط والضبابية ستظل تلازم الأحزاب الستة، لكنها ستكون مجبرة في نهاية المطاف على إنهاء تحالفها أو اللجوء لاختيار شخصية بأغلبية أصواتها وليس بالإجماع.