ما هو المرض الذي يبيح الفطر في رمضان؟.. وهل كل مريض يفطر؟
من رحمة الله بالناس أنه ربط تشريعاته بقدرتهم عليها، وعلم أن حال الإنسان لا يستقيم على طبيعة واحدة، فتارة يكون قويا، وتارة يكون ضعيفا، وتارة يكون صحيحا، وتارة يكون مريضا، وجعل لكل حالة من هذه الحالات أحكامها وتشريعاتها، وجعل لكل موقف يعيشه الرخصة التي تناسبه، وهو من دلائل رحمة التشريع الإسلامي بالإنسان، ولذا عرف في قواعدنا الفقهية قاعدة: صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان، أي: أن حفاظ الإنسان على صحته أولا، ثم تأتي شروط صحة العبادة بعدها، لأن الله لم يطلب منا أن نعبده بما يضرنا أو يهلكنا.
والمرض له عدة أحكام في شريعتنا، وبخاصة مع الصوم، فقد جعل الله المرض رخصة للفطر، فما هو المرض الذي يباح به الفطر؟ وهل كل مريض يفطر؟ أم لا بد من المرض الذي يؤدي لهلاك الإنسان عندئذ يفطر؟ ومن الذي يقرر أن هذا المريض يفطر أم يصوم؟
لقد نص القرآن الكريم على رخصة الفطر للمريض بقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) البقرة: 184، والسفر والمرض هنا رخصة لفطر الإنسان، وقد فرق بعض الفقهاء بين السفر والمرض، فجعل السفر مطلقا هو علة للرخصة، بينما فرق في حديثه عن المرض، وهي تفرقة لا أساس لها حسب نصوص الشرع، فالقرآن الكريم بين أن المرض في حد ذاته رخصة للفطر.
المرض الذي يبيح الفطر
أما المرض الذي يبيح الفطر للصائم في رمضان، فقد اختلفت وجهات نظر الفقهاء فيه، نظرا لثقافتهم ومعلوماتهم عن المرض، ولذا يستفاد من تصورهم وفقههم، ولكن في إطار النصوص الجامعة التي يرجع إليها في الأمر، ولذا سنجد اختلافا كبيرا بينهم في نوع المرض الذي يباح للصائم الفطر به، فمنهم من اشترط أن يكون مرضا شديدا يجد المرض فيه مشقة كبيرة تمنعه من الصوم، مستدلا بقوله تعالى في الحديث عن رخص الصوم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185، وقد رد على ذلك الشيخ رشيد رضا بأن الآية تتحدث عن تعليل الرخصة، وليست دليلا في الرخصة.
ولكن المعيار الذي قال به الكثيرون في نوع المرض، أنه: المرض الذي يسبب ألما للمريض، أو ما يكون الصيام سببا لزيادة المرض، أو يؤخر الشفاء، وهو معيار منضبط بشكل كبير، وسواء كان المرض كبيرا أو مما يعتاد الناس عليه، فالمهم هنا أن يتم شفاء المريض، ولو كان هذا الشفاء يتعارض مع الصوم، يقدم تناول المريض للعلاج عن الصوم، ويقضي فيما بعد.
في إطار هذا المعيار لا نحتاج لتفاصيل الأمراض التي يسأل الناس عنها كثيرا، مثل: مرض السكر، والقلب، والكلى، وغيرها من الأمراض، لأن الأمراض كثيرة والفتوى في النهاية ستكون معتمدة على المعيار لا المرض فقط، فكل ما فيه مصلحة المريض هنا هي المعيار المهم الذي يحتكم إليه الفقيه في فتواه.
لأن البعض ذهب إلى أنه لا بد أن يكون مرضا شديدا، وهناك أمراض يحتاج المريض فيها إلى وجبات خفيفة ليتناول العلاج معها، وتكون على فترات المدة بينهما ليست طويلة، قد تكون مرتين أو ثلاث في النهار، وبعض الأمراض تحتاج لشرب الماء، وبعض الأمراض تحتاج لتناول الدواء كل ثمان ساعات، أو كل ست ساعات، وهذا معناه أنه لن يشفى إلا إذا تناول الدواء في هذه المواعيد المنتظمة، بغض النظر عن نوع مرضه هنا، هو مرض مؤلم أم يتحمله المريض، وهناك أمراض تحتاج إلى عدم خلو المعدة لساعات طويلة حتى يتم الشفاء، ويعمل الدواء في بدنه.
وهناك أمراض يحتاج المريض فيها لدواء مرة في اليوم، أو مرتين، وهي لا تتعارض مع صيامه، وربما كان الصيام مفيدا فيها، فالمعيار الذي يحكم به هنا كما ذكرت، ما يكون في صالح صحة المريض، وانتهاء مرضه، لأن التداوي والتعافي مطلوب شرعا من المسلم، والصوم عبادة تؤدى في رمضان، لكن لصاحب العذر أن يقضيها فيما بعد.
أما من كانت حالته من أصحاب الأمراض المزمنة، كبعض أمراض الشيخوخة، وأمراض معينة يصاب بها الإنسان وتستمر معه إلى وفاته، فهنا أيضا يعتمد فيها على ما يتعلق بصحة المريض وشفائه، ولكنه هنا مرض مستمر، فإن أفطر المريض ليس عليه قضاء، بل عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا، قيمة وجبة واحدة من الطعام، بحسب قدرته المالية، لقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) البقرة: 184.
من يقرر فطر المريض في رمضان؟
وهنا سؤال يطرحه المريض الذي يريد الفطر، أو يفكر في الفطر، وفي الحقيقة إن تقرير فطر المريض أمر شاق على نفس الصائم، وبخاصة من اعتاد الصوم كل عام، فقراره بالأخذ برخصة القصر والجمع في السفر، أسهل كثيرا من قراره في الفطر في رمضان للمرض، وللسفر كذلك، ولا أدري من أين أتى الناس بهذا التشدد إلا بناء على العادة والعرف والخوف من الموقف الاجتماعي.
أما عن إجابة السؤال، فقد قرر فقهاؤنا أن الذي يحكم بالفطر للمريض هنا، جهتان: أما الجهة الأولى، فمن طبيب خبير بالمريض وحالته، وحالة مرضه، فعندئذ يقرر له بناء على ذلك أن يفطر.
وأما الجهة الثانية فالمريض نفسه يقرر، لأنه أدرى بحاله، وقدرته، وأن صومه يضر به، أو يؤخر شفاءه، أو يحدث له أعراضا أخرى مع المرض، فعندئذ يفتي نفسه، فهو أعرف الناس بجسده، وقد يريد البعض منع الإنسان من إفتاء نفسه في المرض، بحجة أنه قد يتساهل، وهو كلام لا يقبل ممن يعترض به، لأن المفطر في رمضان لعلة المرض، مطالب بأن يقضي بعد ذلك، أي: أنه سيصوم بعد ذلك، فلم تسقط عنه فريضة الصوم مطلقا، بل أخذ برخصة في حالة، وسوف يقضي فيما بعد، فهو صائم صائم لا محالة، إن عاجلا أو آجلا.
وبعض الناس للأسف، يريد أن يحكم على الناس في مرضها، بحكم تجربته هو، وأنه مَرِضَ نفس المَرَض ووجده عاديا ولا مشقة فيه، وهو كلام يصح لو كانت كل أجساد الناس واحدة، ولو كانت كل طاقات الناس واحدة، ولو كانت كل طبائع الناس وقدراتها واحدة، وهو ما تحكم الحياة والطبيعة بنفيه، فالناس ليسوا سواسية في التحمل والطاقة والقدرة.
فهناك أبدان لو أكلت عشر وجبات في اليوم لا تصيبها التخمة، وهناك أشخاص لو أكلوا القليل لزاد وزنهم بشكل كبير، فالأجساد في تكوينها وطبيعتها مختلفة، ولذا يكون الحكم في ذلك على الناس من الخطأ البين، وهو ما ينبغي أن يراعيه المفتي والناس.
(انتهى المقال)