عبد الرحمن الأبنودي.. أغني بدموعي لضحكة الأوطان
على سماعة الهاتف سألني: “تعرف أيه عن النديم”؟ كان السؤال مباغتًا لي بعد أن قال لي إنه لا يحب التعامل مع التلفزيون المصري، وكانت المناسبة حلقة من برنامجي على القناة الثقافية المصرية عن صوت الثورة العرابية عبد الله النديم، وكان الأبنودي يرى في ذاته الصورة الحديثة من عبد الله النديم، فهو صوت مصر عبر تاريخها من الخمسينيات حتى وفاته 21 أبريل / نيسان 2015. ويتجلّى ذلك في أعماله منذ ديوانه الأول “الأرض والعيال” الصادر 1964 حتى آخر ديوان له وهو “الموت على الإسفلت 1988″، مرورًا بأغانيه منذ منتصف الستينيات حتى إبداعاته الأخيرة وقصيدته المغناة “ضحكة المساجين” التي لحنها فاروق الشرنوبي وغناها علي الحجار وتحكي قصة ثورة يناير.
النديم حكاية ومسلسل
كان عبد الرحمن الأبنودي قد كتب الأغاني الموازية لمسلسل الكاتب المصري يسري الجندي والمخرجة علوية زكي عن قصة حياة الثائر المصري عبد الله النديم صوت الثورة العرابية الذي استطاع أن يختفي في قرى مصر ومدنها عشر سنوات عن عيون الاحتلال قبل القبض عليه ومحاكمته ونفيه من مصر إلى إسطنبول التي دُفن فيها، وكان الأبنودي يرى في ذاته صورة النديم:
راحل من تاني راحل
سايب صوتي في سكاتك
سايب قلبي في حاراتك
وضحكتي في نباتك
يا مصر وداني رحل
حوار طويل امتدّ بنا على الهاتف مدة طويلة وامتدّ عاما ونصفا من عمر الزمن وحلقات تلفزيونية بلغت 70 حلقة من برنامجنا التلفزيوني “بحر الكلام” عن الأغنية الدرامية في العمل الدرامي التي كان الأبنودي واحدا من أعمدتها، وقدم خلالها أكثر من ألف أغنية درامية في مسلسلات أنتجتها التلفزيون المصري وشركات إنتاج عربية نذكر منها ذئاب الجبل، فارس الرومانسية، رحلة السيد أبو العلا البشري، خالتي صفية والدير، جمهورية زفتى، خان الخليلي، وعلي الزيبق.
و”علي الزيبق” هو المسلسل الثاني الذي كتب الأبنودي أغانيه عن رواية ليسري الجندي وإخراج إبراهيم الشقنقيري، وكان الأبنودي يحمل له مكانة كبيرة أيضا في قلبه، وعلي الزيبق بطل شعبي كان ينتظره الحرافيش ليخلصهم من الظلم.
وفي وسط الظلمة تهل أنت
ولا نعرف من فين أو أمتى
ترفع بنيان الغلبان
وتطاطي بنيان الوالي
وترقص قصر السلطان.
ثلاث محطات في مشوار الأبنودي
في مشوار الأبنودي الدرامي محطات عزيزة على قلبه منها أعمال تلفزيونية وأخرى سينمائية مثل: أبو العلا البشري، وخالتي صفية، والدير وذئاب الجبل من الأعمال الدرامية. وفي “ذئاب الجبل” قدم أغنية بصوته من تلحين جمال سلامة، أما أغنيات رحلة السيد أبو العلا البشري فكانت لها مكانتها الخاصة لديه، فالشخصية المثالية لها إغراؤها لدى كاتب وشاعر بحجم الأبنودي وجزء من تكوينه الشخصي:
كل اللى عايشين للبشر
من حقهم
يقفوا ويكملوا
يمشوا ويتكعبلوا
ويتوهوا أو يوصلوا.
محطات سينمائية
يتوقف الأبنودي عند محطات ثلاث في كتابته السينمائية وهي تجربته في فيلم “شيء من الخوف” عن قصة ثروت أباظة بإخراج حسين كمال وبطولة شادية ومحمود مرسي (جواز عتريس من فؤادة.. باطل) فقد كتب الأبنودي حوار الفيلم، وأغنية الفيلم المصاحبة للأحداث كأنها موال طويل يحكي قصة الدهاشنة (مصر): البلد اسمها الدهاشنة.. والمكان محدش قلنا.. يمكن ما كنتش أبدا.. يمكن في كل مكان.
أما التجربة الثانية فكانت في فيلم “الطوق والأسورة” عن قصة يحيى الطاهر عبد الله واحد من ثلاثة مبدعين جاؤوا إلى القاهرة من محافظة قنا هم الشاعر أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في مصر والأبنودي الذي كتب الحوار للفيلم المأخوذ من قصة رفيق عمره، أما الفيلم الثالث فكان فيلم “البريء” تأليف وحيد حامد وإخراج عاطف الطيب، الذي كتب له أغنيتين (الدم):
الدم اللي في أيديا.. بيقولي قتلت مين.
وهي الأغنية الشهيرة للفيلم التي سمحت الرقابة بعرضها، وكانت الرقابة قد حذفت مشهد النهاية للفيلم وحذفت أيضا أغنية الأبنودي يا قبضتي التي لحنها وغناها عمار الشريعي وتقول كلماتها:
يا قلوب بتنزف دم في العتمة .. يا قلوب بتنزف دم وتغني
سجنوا وبيسجنوا الكلمة .. والكلمة غصب عنها أو عنهم
طلعت من القضبان ومن الأسوار.
وهناك أغنية أخرى غنى بها علي الحجار ولحنها يقول فيها الأبنودي:
من عشقي فيكي .. يا محروسة يا إنسانه
لا كرهت سجنك .. ولا كرهتني زنزانه
زنزانتي لو أضيق .. أنا من ورا السجان
في العتمة بتشعلق .. حتى على الدخان
وبغني بدموعي لضحكة الأوطان.
وما أروع وصف الأبنودي لتلك اللحظة حين يصف الزنزانة المغلقة حيث لا جليس ولا وأنيس، لا شيء سوى الأحلام والذكريات.
دواوين الأبنودي الشعرية
قدم عبد الرحمن الأبنودي 20 ديوانا شعريا لعل من أبرزها جوابات حراجي القط عن يوميات عامل من عمال السد العالي إلى زوجته وحرمه المصون فاطنة، الذي نشر عام 1969، وعماليات والزحمة. وكان ديوان وجوه على الشط ديوانا بارزا للأبنودي عن تجربته الشخصية على شاطئ قناة السويس التي امتدت من حرب يونيو/ حزيران 1967 حتى نصر أكتوبر في منطقة عشقها واستقر فيها سنواته الأخيرة في الإسماعيلية إحدى مدن القناة، ومن دواوينه الأخرى الأحزان العادية، وأنا والناس، وصمت الجرس، والمشروع والممنوع، والموت على الإسفلت، ومجموعة السيرة الهلالية وهو مشروع ممتد للأبنودي، وصدر منه خمسة أجزاء قدمها حكاية في الإذاعة المصرية مع الراوي جابر أبو حسين طوال فترة السبعينيات، ثم قدمها للتلفزيون المصري عام 2010.
الأبنودي وفلسطين
قدم الأبنودي أغنيات وقصائد كثيرة عن فلسطين وكانت القدس محور الكثير من قصائده وغنى له عبد الحليم حافظ أغنيته الشهيرة “المسيح” من تلحين بليغ حمدي في لندن بحفلات المجهود الحربي التي قام بها الفنانون المصريون عقب هزيمة يونيو. وللأبنودي أغنية حديثة هي “قمر يافا” التي غناها كثير من المطربين العرب والمصريين.
يا قمر عبّر بعزة .. عن ميلاد النور في غزة
وفي رام الله وفي جنين
يا قمر اغضب بحدّة .. انتفاضة مالها ردّة
زي ما في يافا وحدة .. وحدة برضك دير ياسين
وللأبنودي قصائد كثيرة أخرى منها العفو يا فلسطين، حبيبتي يا فلسطين، أنا الدرويش، وقصيدة ناجي العلي، والقدس قدسي.
وقد ارتبط الأبنودي بشعراء فلسطين الكبار محمود درويش وسميح القاسم منذ وصولهما إلى القاهرة في الستينيات واستمر ذلك الارتباط حتى رحيل الجميع. وكان له علاقة وطيدة بناجي العلي المناضل الفلسطيني ورسام الكاريكاتير الأهم في تاريخ الثورة الفلسطينية الممتدة حتى الآن وصاحب شخصية حنظلة الطفل الفلسطيني المقاوم والرافض للاحتلال الصهيوني الذي يواجه ظلم العالم بظهره ورسوماته وأشعاره. وعن القدس كتب الأبنودي
يا قدس .. قولي لحيطانك
اثبتي بقوة .. حيخلصك ابنك
اللي أنا .. ما نيش هوه
لا تبحثي عن حلول .. الحل من جوه
الحل من جوه
الحل من جوه