الخيال الجغرافي وبناء قوة الدولة في عالم جديد!

لكي تتمكن الدولة من بناء قوتها -خلال هذا القرن- يجب أن تربط موقعها الجغرافي بهويتها وتاريخها!
لذلك يفتح مفهوم “الخيال الجغرافي” مجالات علمية جديدة، ويقدم أساليب متنوعة للتفكير في الزمان والمكان، والربط بين المعرفة والقوة، وإدراك الدول لهويتها وتاريخها وسلوكها السياسي العالمي.
دور الجغرافيا في صنع التاريخ
والخيال الجغرافي فن وعلم يهدف إلى تطوير دور الدول في صنع التاريخ، ودور المكان والفضاء في تشكيل الاقتصاد السياسي.
لذلك يمكن أن يساهم هذا المفهوم في تطوير رؤية الدولة لمستقبلها، واستثمار تاريخها وموقعها الجغرافي وهويتها في بناء مكانتها وحضورها على المستوى العالمي، كما يتيح المفهوم توسيع مساحة الأمل، وممارسة الإبداع في تصور عالم جديد.
إن الخيال الجغرافي يمكن أن يقوم بدور مهم في تشكيل إدراك الدول لقوتها، ووعيها بمصادر هذه القوة، وفهم العالم.
لذلك فإن قيام الدولة بتنمية الخيال الجغرافي لطلابها يمكن أن يساهم في بناء تصور هؤلاء الطلاب لصورة دولتهم في العالم، ودورها في إدارة الصراعات العالمية.
إن نقطة الانطلاق نحو المستقبل تتمثل في زيادة قدرة الطلاب على الربط بوعي بين الموقع والمساحة والفضاء والتاريخ والقيم، وبناء صورة ذهنية للدولة ومكانتها في العالم.
الخيال الجغرافي والصورة الذهنية
ترى دورين ماسي أن الأفراد يحملون في أذهانهم صورة للعالم. فكيف يتم تشكيل تلك الصور، وما دورها في إدارة الصراع؟!
إن الصور التي يحملها الأفراد في أذهانهم عن دولتهم وعن العالم تؤثر في إدراكهم واتجاهاتهم نحو الدول والشعوب الأخرى. ولقد أثر تدفق المعلومات في العصر الحديث في خيال الأفراد والصور الذهنية، وقرارات الأفراد وسلوكهم، وفي قدرة الدول على تحقيق التنمية والتقدم.
لذلك يمكن أن يساهم تطوير الخيال الجغرافي للأفراد في تطوير معرفتهم للعالم، وفي قدرتهم على بناء رؤية لتحقيق أهداف طويلة المدى.
وفي الوقت نفسه فإن القيادة يجب أن تمتلك رؤية لمكانة دولتها، وكيفية استغلال مواردها ومصادر قوتها المكانية والزمانية، وبناء علاقاتها الدولية في ضوء هذه الرؤية، وأن تربط بوعي بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد والتعليم.
لذلك تطور اهتمامي بمفهوم “الخيال الجغرافي”، وأنا أكافح لتطوير علوم القيادة والاتصال والإعلام الدولي والدبلوماسية العامة والعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي وبناء مجتمع المعرفة.
خيال جغرافي للعصر الرقمي
لقد أثرت ثورة الاتصال في التفكير الجغرافي السياسي، حيث فتحت أمام الأفراد والدول إمكانيات جديدة لفهم العالم، وإدراك إمكانيات بناء القوة، وإدارة الصراعات.
فالطلاب في العصر الرقمي يستطيعون أن يحصلوا على معلومات جديدة يمكن أن تساهم في تطوير قدراتهم على الإبداع، وزيادة ذكائهم الجغرافي السياسي، وإدراك العالم بأسلوب جديد.
لكن الدول يمكن أن تقوم بدور مهم في تطوير الخيال الجغرافي لطلابها، وزيادة قدرتهم على الربط بين ما يحصلون عليه من معلومات عن المكان والزمان والثقافة والتاريخ والصراع العالمي.
وهذا الدور الذي يمكن أن تقوم به الدول يساهم في بناء مستقبلها عن طريق زيادة قدرات الطلاب على الإبداع في بناء رؤية شاملة لتطوير قوة الدولة.
إن الاهتمام بمفهوم الخيال الجغرافي يرتبط بثورة الاتصال التي تفتح أمام الأفراد والشعوب مجالات جديدة للإبداع في التفكير الجغرافي وبناء قوة الدول.
لذلك يرى ستولتمان أن عملية تعليم الجغرافيا تشهد تغيرات هائلة نتيجة تطور تكنولوجيا المعلومات، وكمية المعلومات الجغرافية التي يمكن أن يحصل عليها الطلاب، وكيفية تنظيمها، وزيادة الكفاءة في استخدامها لبناء رؤية للعالم.
الخيال الجغرافي وبناء التحالفات الدولية
إن الخيال الجغرافي يمكن أن يفتح أمام الدول مجالات جديدة للتخطيط، وبناء استراتيجيات للتحالف مع دول تشترك معها في الكفاح لتحقيق أهداف طويلة المدى مثل التحرر من الاستعمار والسيطرة الغربية، وتحقيق التنمية والتعاون والمشاركة في استغلال موارد الدول، وتحقيق التكامل بينها.
وهذا يفتح المجال للتفكير في الربط الواعي بين الجغرافيا والثقافة، فالدول تسكنها شعوب لها تاريخ، استطاعت عبر الزمن أن تطور تجاربها الإنسانية، وتبني منظومة من المبادئ والقيم يجب أن نستوعبها لكي نتمكن من إقامة علاقات مشاركة وتعاون معها.
إن الجغرافيا لا يمكن فصلها عن هوية الشعوب وآلامها وطموحاتها. لذلك يشير فاهي واوسينيد إلى مفهوم جديد هو رسم خرائط المجتمعات التي تشكل معرفة اجتماعية تزيد فهمنا لهذه المجتمعات، ولإمكانيات تحقيق التنمية المستدامة.
ونحن نرى أن تلك الخرائط الاجتماعية تزيد إمكانيات بناء التحالفات بين الدول على أسس حضارية وثقافية وتاريخية، وهذه التحالفات يمكن أن تساهم في تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، تربط بين الشعوب.
التحالفات وتكامل المعرفة
لذلك يمكن أن تطلق الدول خيالها الجغرافي لبناء التحالفات في المستقبل، عن طريق تكامل المعرفة الجغرافية والسياسية والثقافية والتاريخية، والربط بين التجارب الإنسانية.
تقول مجموعة من الباحثين الأتراك في دراسة مهمة نشرتها مجلة جامعة مرمرة للعلوم السياسية إن الخيال الجغرافي يعني كيف ترى الشعوب العالم، وما العوامل التي يمكن أن تؤثر في هذه الرؤية مثل الطبقة الاجتماعية والتعليم، والفلسفات السياسية والشخصية، واللحظة التاريخية التي يرى فيها الشعب العالم من حوله.
إن الخريطة ليست مجرد خريطة، بل إنها تعكس أيديولوجية من قام برسمها.
إننا نسير في حياتنا ونحن نحمل -كما تقول دورين ماسي- صورة لدولتنا، وللانقسام بين الشرق والغرب. وهذه الصورة من أهم العوامل التي تؤدي إلى الصراعات. لذلك فإن العقل الجغرافي لا بد أن يأخذ في الاعتبار الصورة الذهنية وكيف تشكلت، ودور الثقافة والتاريخ في بنائها.
في ضوء ذلك فإن البشرية تحتاج إلى خيال جغرافي جديد يتجاوز حدود المكان والفضاء والخرائط التي رسمتها القوى الاستعمارية.
هذا الخيال الجغرافي الجديد يمكن أن يساهم في كفاح الشعوب للتحرر من الاستعمار والسيطرة الأمريكية، ومن الصور التي غرستها أمريكا وأوروبا في أذهان الشعوب لتمنعها من القيام بجهد مشترك للتحرر من السيطرة الاستعمارية.
خيال جغرافي لمرحلة ما بعد الاستعمار والتبعية
ولكي تتمكن الشعوب من بناء عالم جديد يجب أن تقوم بمراجعة تجاربها التاريخية والإنسانية، وتبحث عن العوامل المشتركة التي يمكن أن تزيد إمكانيات التعاون مع شعوب أخرى.
ومن المؤكد أن الحضارة والثقافة يمكن أن تعيد بناء الخرائط العالمية، وتشكل تحالفات جديدة تقوم على أسس حضارية، وتتجاوز تلك الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو، والتي أعاقت إرادة الشعوب في تحقيق التعاون والتقدم والتنمية، ووفرت أساسًا لصراعات طويلة، وأصبحت عبئًا على الشعوب التي انشغلت بالأغاني الوطنية عن الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد، وعن العمل لتحقيق التنمية والتقدم.
إن التحدي الذي يجب أن تواجهه الشعوب خلال هذا القرن هو كيف تطور خيالا جغرافيا لمرحلة ما بعد السيطرة الغربية والأمريكية؟!
هذا الخيال يمكن أن يساهم في التنسيق بين عناصر القوة المكانية والزمانية والحضارية والثقافية لبناء عالم جديد أكثر عدلا.
لقد تمكنت القوى الاستعمارية خلال القرنين الماضيين من نهب ثروات الشعوب الأفريقية والآسيوية عندما تمكنت من بناء صورة لأوربا تقوم على تفوق الرجل الأبيض وتقدمه، ودوره في تمدين الشعوب المتخلفة، وحقه في السيطرة على العالم.
وأكملت أمريكا هذا الدور بسيطرتها على النظام الإعلامي العالمي عقب الحرب العالمية الثانية، واستخدامه في فرض صورة لأمريكا على العالم تقوم على القوة والتفوق والتقدم والديمقراطية، وأن من حقها أن تدير الصراع العالمي.
عجز الشعوب وانكسارها
وفي الوقت نفسه استخدمت أمريكا النظام الإعلامي العالمي لبناء صورة للشعوب الإفريقية والآسيوية تقوم على أنها عاجزة عن استغلال ثرواتها، لذلك يجب أن تبيعها وهي مواد خام لأمريكا بثمن بخس لتشتري سلعا ترفيهية تم إنتاجها من تلك المواد الخام التي نُهِبت من أراضيها، ولتشتري أسلحة تقاتل بها جيرانها الذين يعانون المأساة نفسها التي صنعها الاستعمار.
وهذه الشعوب خضعت لحكام مستبدين فرضتهم أمريكا عليها، وكل طموح هؤلاء الحكام تحقيق الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية.
لذلك فإن الشعوب الأفريقية والآسيوية يجب أن تطور خيالها الجغرافي السياسي الثقافي لتبني مستقبلها، وتحقق استقلالها الشامل، وتتعاون مع دول تمتلك تجارب إنسانية مشابهة.
إن بناء التحالفات في المستقبل يحتاج إلى خيال جغرافي يربط المكان والزمان بالحضارة والثقافة، ويوفر المعرفة للشعوب لتبني على أساسها صورا ذهنية تساهم في تحقيق التعاون والمشاركة في تحقيق أهداف طويلة المدى من أهمها التحرر من السيطرة الاستعمارية وتحقيق الاستقلال الشامل.
كما أن الخيال الجغرافي ضرورة لقيادة تبني رؤية تحقق للدولة القوة في المجالات المختلفة، ومن أهمها بناء السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، لذلك يجب أن تختار الشعوب قادة يمتلكون خيالا جغرافيا سياسيا حضاريا ثقافيا.