المحنة والمنحة للمحبوب.. عرفات الجزيرة

اللحظة الدرامية في حياة الإنسان هي لحظة الاختبار التي يواجهها في الحياة كل منا، لحظة تكون هي محور حياته تنتقل به من حال إلى حال، وتغير أشياء وتبدل أشياء، وتختلف تلك اللحظة حسب كل شخص، فما يناسب شخصية قد لا يناسب الأخرى في تلك اللحظة التي قد يظهر في الشخص ما خفي عنه في ذاته.
عرفات جزيرة غمام
استطاع عبد الرحيم كمال مؤلف مسلسل جزيرة غمام أن يرسم شخصية الشيخ عرفات في مسلسله جزيرة غمام بحرفية شديدة، وامتلك الفنان أحمد أمين الذي أدى هذا الدور مقومات الشخصية، وبرع في الأداء، وترك أثرًا كبيرًا لدى جمهور المشاهدين، فهي شخصية المحب العاشق لله، وتملّكت الحالة الصوفية الشخصية والجمهور، وصار رمزًا للعشق الإلهي، فتجاوب الجمهور مع الشخصية، وصار النص المكتوب الذي يؤديه الممثل على لسان المشاهدين، وهنا نجاح الشخصية، ونجاح كاتب النص، ونجاح الممثل.
عرفات تلميذ الشيخ الذي أعطاه سره في التواصل وأسرار الناس، وأعطاه التسبيح والحمد والتكبير لصاحب الملكوت الله -جل جلاله- من خلال السبحة أداة التواصل مع الخالق العظيم تصاحبه ليل نهار، في العمل والراحة يفتتح بها الكلام ويختتمه، يناجي بها ربه ويدعوه بها، كانت تلك ميراث الشيخ الأكبر لتلميذه الذي منحه أيضًا كتاب الأسرار، أسرار الناس، وأسرار الحياة، وبتلك الأسرار يسعى بين الناس للخير، أوصاه ألا يستخدمها في الشر، أو يهدد بها أهل الجزيرة، وألا يقع فريسة لها، للحظة ما تصور أهل الجزيرة أن عرفات لم يأخذ شيئًا من شيخه، وتعاملوا معه على هذا الأساس، لكن الشيخ مدين أعطى تلميذه أغلى ما يملك، لقد منحه سلّم التواصل الوجداني الإلهي، أعطاه كنوز الدنيا كلها، ومعارف الحياة.
إغراء الدنيا وسقوط النفس
عاش عرفات زاهدًا في الحياة ومحبًا لها، عارفًا بالأسرار ويسترها، يجمع أطفال القرية بالحب، ويحصد محبتهم حتى أكثر من ذويهم، يتشبع معهم بالحب والمحبة، والعلم والتعلم، ويعبر بهم الأحداث، ويخترق الحوائط المقامة، وبكل هذا الحب يسعى في الأرض، نجارًا يصنع ما يحتاجه الناس، ويصلح ما هو معطوب في حاجاتهم ومنازلهم، لم يستعمل ميراثه إلا فيما ينفع الناس، حتى جاءت اللحظة الدرامية للشخصية.
خلدون شيطان العمل وهادم الجزيرة والباحث عن تفتيتها، الساعي إلى خرابها لتكون وطنًا لأهله المشردين (طرح البحر) الذين ينتقلون من مكان إلى مكان، يطردهم الجميع ويريدون أن يستوطنوا أرض جزيرة غمام، يلعب خلدون بالجميع إلا عرفات، للكل في الجزيرة عيب أو نقص، أما عرفات فلا نقص ولا رذيلة، فماذا يفعل معه؟ الغواية كانت مفتاح الشخصية، وفي لحظة من لحظات الاختبار الرباني تسقط النفس لدى عرفات الذي أغراه خلدون بعباية مزركشة، وصيحات كاذبة عن مولانا الشيخ، وسيدنا، سقطت نفس عرفات وغاب عنها الحب، وغاب التواصل، ليعود إنسانًا آخر، يغضب على الأطفال، يرفض عمله فقد صار يخاف على عباءته من الاتساخ من أدوات النجارة، وبدا وكأن يديه صارت أكثر نعومة، ويلتصق جسده بعباءة خلدون الزائفة، لم يخلع عرفات جلبابه الأصلي رغم تهافته، وعدم ملاءمته للعباءة الثمينة في إشارة واضحة إلى وقتية العباءة.
عندما ينقذنا الندم والبكاء والاعتراف
عندما تكون في معية الحب فما أعظم أن تكون محبتك لخالق الحب، يدفعك في بلاء لتعود إليه، فأنت في الأصل محب، والمحبوب هو الحب كله، ويمنحك المحبوب الابتلاء ليعيدك إلى كنفه، وفي المحنة منحة، وما أعظم منحة الخالق حينما تأتي في قمة المحنة.
غاشي زعيم المطاريد يختطف عرفات ويأتي إليه مقيد اليدين، يرتدي تلك العباءة الزاهية الملعونة، يطلب منه أن يسير على المياه، أو يخرج من الأبواب المغلقة، يعنفه بشدة لدرجة ارتطام رأسه بصخر الجبل، وفي لحظة ما تضيء نفس عرفات ويضيء معها نفس غاشي، يبكي عرفات أمامه، ليعترف أن خلدون قد خدعه بالعباءة وبزفة طرح البحر، يبكي بشدة، ويتذكر أنه نسي التسبيح والحمد والتكبير، منذ ارتداء العباءة، وهنا تتجلى لحظة الندم والعودة من محنة الاختطاف، ويعود التواصل، ولكن ما زال في الدرس بقية، ما زال عرفات يرتدي عباءة خلدون، رغم أن البكاء أعاده للطريق، ولكي يكتمل الدرس يخرج عرفات من عند غاشي لا يعرف كيف يعود؟ فيقابله من يأخذ عباءة خلدون، ويتوه أكثر، وفي التوهة يعود التواصل مع المحبوب بالصلاة والتكبير والتسبيح، ويظهر له شيخه، آخذًا بيده، وتولد المنحة بالبكاء والاعتراف والندم والعودة.
أخيرًا
كنت أنوي كتابة مقال عن الحب، فجاءت الكتابة عن الحب والمحبة والتواصل والاتصال، والقلوب النقية والقلب السليم والمحن والمنح والاختبار والأخطاء والتوبة، والخطايا والندم، والعفو والرحمة ليبقي دائمًا العنوان (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) صدق الله العظيم.