الإحسان والسعي لبلوغ درجة الكمال الإنساني
الإحسان هو أن ينشد الإنسان الكمال في كل شيء، فالمسلم مطالب بأن يُحسن إسلامه ليتضاعف أجره، وحسن إسلامه يكون بإتقانه للعمل، وتحسينه لأدائه، بحيث يشمل مظاهر حياته كلها.
والإسلام يدعو إلى الإحسان، ويحرص عليه، ويحث أتباعه على ذلك، يقول تبارك وتعالى: {ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُ} (الزمر: 18)، وقال: {وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} (العنكبوت: 69)، ويقول عز وجل: {إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ} (النحل: 90)، وقوله: {لَهُم مَّا یَشَاۤءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} (الزمر: 34)، فهذه الآيات وغيرها تبين منزلة الإحسان عند الله، وما أنعم عليهم من محبته ورعايته وهدايته.
وقد حثّ النبي، صلى الله عليه وسلم، أتباعه على الإحسان في كل شيء، فقد روي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إِذا أحْسَنَ أحَدُكُمْ إسْلامَهُ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ له بعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ له بمِثْلِها”. وعن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ اللَّهَ حيثُما كنتَ وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها وخالِقِ النّاسَ بخلقٍ حسنٍ”. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اعبُدِ اللهَ كأنَّك تَراهُ، فإن لَم تكُن تراهُ فإنَّهُ يَراكَ”.
هذه الأحاديث وغيرها تبين ما للإحسان من مزايا، فعلى المسلم أن يكون محسنًا مع الله، ومع نفسه، ومع غيره من الناس، ولا يكون غليظ القلب، سيئ الطباع.
والإحسان يبدو في الأعمال والأفعال، فإذا أتقن الإنسان عمله، وما كُلف بأدائه من حقوق وواجبات، وإذا قام بأفعال البر، وأحسن إلى الغير، أو عمل عملًا خيّرًا، فإنه يُنسب إليه هذا الفعل وذلك العمل، ويلقى من الله أفضل الجزاء لأنه إحسان، يقول تعالى: {هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ} (الرحمن: 60).
والإحسان فوق العدل؛ لأن العدل إنصاف وقسمة وقسط، والإحسان إيثار وتضحية، عطاء وبذل للغير عن طواعية ورضاء؛ لأن المحسن لا يطالب بثواب يستحقه في الدنيا، وإنما يتركه اختيارًا لله تعالى الذي عنده الجزاء الأوفى على إحسانه، يقول تعالى: {إنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبٌ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} (الأعراف: 56).
وبالإحسان يشعر المؤمن شعورًا ملازمًا، أن الذي يعطي هو الله تعالى وحده، وأن المال والصحة والجاه، وكل ما في الدنيا إنما هو منه وإليه، فلا يحسّ المؤمن في الإحسان بذاته إلا كوسيلة اختارها الله تعالى لفعل الخير، وعمل المعروف.
ومن صور الإحسان التي حثّ عليها الإسلام:
أولًا: الإحسان في المعاملات والعلاقات الشخصية: ففي المعاملات والعلاقات الشخصية لا يُكتفى بالعدل بل يتعداه إلى الفضل وهو الإحسان. يقول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ} (النحل: 60).
يقول ابن كثير، رحمه الله: يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى: {وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَىِٕن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَیۡرٌ لِّلصَّـٰبِرِینَ} (النحل: 126)، وقوله: {وَجَزَ ٰؤُا۟ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ} (الشورى: 40)، وقوله: {وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: 45).
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شريعة العدل، والندب إلى الفضل.
ويقول صاحب الظلال: “وإلى جوار العدل.. الإحسان.. يُلطِّف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارًا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور، ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوى أو يكسب فضلًا، والإحسان أوسع مدلولًا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يمثل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقته بالجماعة، وعلاقته بالبشرية جميعًا”.
ثانيًا: الإحسان في الأموال: ويكون الإحسان بحسن التصرف في المال، وذلك بإخراج حق الله فيه، ثم تعدي ذلك إلى الإنفاق في سبيل الله، في الجهاد وغيره، ثم إحسان الظن بالله أنه سيخلف عليه خيرًا مما أنفقه، يقول تعالى: {وَأَنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُوا۟ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} (البقرة: 195).
والإنفاق في السراء والضراء، مع كظم الغيظ والعفو عن الناس، من الإحسان الذي يحبه الله، يقول تعالى: {ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} (آل عمران: 134).
ثالثًا: الإحسان في العمل: ويكون الإحسان في العمل بإتقانه في أحسن صوره، بأن يعمل الإنسان العمل لغيره كما يحب أن يعمله غيره له، فإعطاء العمل حقه بلا غش ولا تدليس، وأداء العمل بلا خمول ولا استهتار، لهو الإحسان الذي يحبه الله.
يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”.
يقول الشيخ الغزالي: “إن الدين إذا لم يكن ارتفاعًا بمستوى الإنسان فما يكون؟ وفي هذه الأيام العجاف أرى جماهير من المسلمين، أبعد أهل الأرض عن حقيقة الإحسان، بيوتهم رديئة، وطرقهم رديئة، وسيرهم رديء، وإذا صنعوا سلعة خرجت من بين أيديهم دون غيرها مما يصنع الناس، وإذا أداروا عملًا استغرق الكثير من الأوقات والجهود، ولم يبلغوا به درجة الاكتمال التي يحققها من بذل جهدًا أضعف، ووقتًا أقل، كأنهم من طينة غير طينة البشر، هؤلاء الناس في انتمائهم الديني ريب كبير، ولكي يعودوا إلى الإسلام يجب أن يعاد تشكيلهم العقلي والخلقي، حتى إذا باشروا عملًا ما، أقبلوا عليه بقواهم المادية والأدبية كلها، فخرج سليمًا كريمًا”.
رابعًا: الإحسان إلى اليتامى والمساكين: والإحسان إلى اليتامى والمساكين، يكون بالمحافظة على حقوقهم، والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدّ يد العون لهم، قال تعالى: {وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَانًا وَذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَقُولُوا۟ لِلنَّاسِ حُسۡنًا وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّیۡتُمۡ إِلَّا قَلِیلًا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ} (البقرة: 83)، فإن الإحسان إليهم والبر بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم مِن أزكى القربات، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنَّ رجلًا شكا إلى رسولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قسوةَ قلبِه فقال: “امسَحْ رأسَ اليتيمِ وأطعِمِ المسكينَ”.
خامسًا: الإحسان في تمثيل الإسلام: والإحسان في تمثيل الإسلام يكون بتجسيد الإسلام تجسيدًا عمليًا في صورة المعاملات والأخلاقيات، بأن يكون الذين يمثلون الإسلام في صورة أفضل وأنبل في جميع المجالات، بحيث يكونون أسوة لغيرهم من الناس في شتى مناحي الحياة.
ولكي ينال المسلم أعلى درجات الإحسان ينبغي له أن يربط بين حسن الباطن بالطبع والمعتمد على النية، وحسن الظاهر بالتطبع والمرتبط بأعمال الجوارح ليصوغ من ذلك منهجًا تربويًا في إصلاح النفس وترويضها نحو الأحسن.