عجز الميزان التجاري السبب الرئيسي لمشكلة الدولار في مصر
رغم زيادة الصادرات المصرية بالعام الماضي إلى 43.6 مليار دولار، فقد زادت أيضا قيمة الواردات إلى 83.5 مليار دولار، ليستمر الفارق بين الصادرات والواردات، وهو ما يعرف بالعجز التجاري بقيمة 39.8 مليار دولار، ولتصل نسبة تغطية الصادرات للواردات 52%.
وقبل مئة وعشرين عاما كانت مصر تحقق فائضا تجاريا فى تعاملاتها مع دول العالم، استمر منذ عام 1884 وحتى 1902، وبعد ذلك تناوب العجز والفائض على الميزان التجاري حتى عام 1940 مع غلبة سنوات الفائض، ثم هيمن العجز على الميزان التجاري المصري بشكل مستمر حتى عام 1969 حين تحقق فائضٌ تجاري لعام واحد فقط، أيام الصفقات المتكافئة مع دول المعسكر الاشتراكي بأوربا الشرقية.
ثم عاد العجز ليهمن على الميزان التجاري حتى عام 1973 حين تحقق فائضٌ لعام واحد مع ظروف الحرب وتقليل الواردات، ثم عاد العجز ليهيمن على الميزان التجاري حتى العام الماضي لمدة 48 عاما متواصلة.
ويتوقع استمرار هيمنة العجز على الميزان التجاري خلال السنوات المقبلة لفترة ليست قصيرة، خاصة أن غالب الصادرات عبارة عن مكون أجنبي مستورد، وبالتالي كلما زادت قيمة الصادرات فستزيد قيمة الواردات كذلك، ليستمر العجز التجاري، وما ننشده هو تحسين نسبة تغطية الصادرات للواردات تدريجيا.
نسب تغطية ضعيفة للسلع الرأسمالية
ولعل الاقتراب من المكون السلعي خلال العام الماضي يمكن أن يوضح أسباب هيمنة العجز التجاري، إذ صُدِّرت سلع غذائية بقيمة 5.7 مليارات دولار، بينما تم استيراد سلع غذائية بقيمة 14 مليار دولار، ومع تصدير مستلزمات صناعية بقيمة 17 مليار دولار، فقد تم استيراد مستلزمات صناعية بقيمة 32 مليار دولار، ومع تصدير سلع رأسمالية وقطع غيار -عدا السيارات- بقيمة 805 ملايين دولار، فقد تم استيراد النوعية نفسها من السلع بقيمة تقترب من 13 مليار دولار.
ومع تصدير سلع استهلاكية بقيمة 5.6 مليارات دولار، فقد تم استيراد سلع استهلاكية بقيمة تزيد عن 6 مليارات دولار، ومع تصدير سيارات ووسائل نقل وقطع غيار سيارات بقيمة 749 مليون دولار، فقد تم استيراد النوعية ذاتها من السلع بقيمة 8 مليارات دولار، حتى إن قيمة تصدير سيارات الركوب وحدها بلغت 4 ملايين دولار فقط، مقابل استيراد سيارات ركوب بقيمة 3.7 مليارات دولار خلال العام الماضي.
وهكذا يتبين أنه إذا كانت النسبة العامة لتغطية الصادرات للواردات تصل إلى 52%، فقد كانت النسبة 6% فقط لتغطية صادرات السلع الرأسمالية للواردات منها، ونسبة 9% لتغطية صادرات السيارات ووسائل النقل وقطع غيارها إلى الواردات منها، ونسبة تغطية السلع الغذائية 41%، لتنفرد صادرات النفط والغاز بتحقيق نسبة تغطية 132%، إذ بلغت قيمة صادراتها 13.7 مليار دولار مقابل واردات بقيمة 10.4 مليارات دولار.
لكن هذا الرقم الخاص بصادرات البترول الخام والمشتقات -وكذلك صادرات الغاز الطبيعي معا- يتضمن نصيب الشريك الأجنبي الذي لا يُعلن عن نسبته من تلك الصادرات، وإن كانت مصادر نفطية تشير إلى أن تلك النسبة حوالي 40% من الإجمالي حيث تختلف حسب العقود مع الشركات الأجنبية.
حصيلة الصادرات لا تعود بالكامل
وما ينطبق على الصادرات النفطية والغازية ينطبق على باقي سلع الصادرات، حيث يشير رقم مجمل الصادرات إلى قيمة ما يخرج من البلاد من صادرات بغض النظر عن المالك لها، الذي يمكن أن يكون شركة أجنبية أو عربية، وهي شركات غير مجبرة على إعادة إدخال حصيلة صادراتها إلى داخل البلاد، فربما تحتفظ بها أو بنسبة منها بالخارج.
وما ينطبق على السلع ينعكس على الدول التي تتعامل معها مصر تجاريا، ففي العام الماضي صدّرت مصر سلعا للصين بقيمة 1.5 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الواردات منها 13.2 مليار دولار، لتصل قيمة العجز التجاري مع الصين 11.7 مليار دولار، وهو العجز الذي تكرر بالتجارة مع السعودية بقيمة 4.7 مليارات دولار، كفرق بين صادرات لقيمة 2.2 مليار دولار وواردات منها بقيمة 6.9 مليارات دولار.
وهكذا بلغت قيمة العجز التجاري مع الولايات المتحدة 3.6 مليارات دولار ومع ألمانيا 3.1 مليارات دولار، ومع روسيا 2.7 مليار، ومع أوكرانيا 1.7 مليار دولار، وهكذا بلغت نسبة تغطية الصادرات للواردات 3% مع سويسرا، و5% مع نيوزيلندا، و7% مع أوكرانيا، و11% مع الصين، و15% مع روسيا.
وعوّض ذلك إلى حد ما تحقيق فائض تجاري مع بعض الدول الأجنبية مثل اليونان وقبرص وسلوفينيا وكرواتيا وإسرائيل وسنغافورة وكينيا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا، إلا أنه لا توجد أي من تلك الدول على قائمة الدول الخمسة عشر الأكبر بالتجارة في مصر نظرا لقلة حجم التجارة معها، ولهذا تأتي بمراكز متأخرة فيما عدا اليونان صاحبة المركز السابع عشر.
وحققت مصر فائضا تجاريا مع أغلب الدول العربية فيما عدا الدول الخليجية الست، إلا أن الوزن النسبي للتجارة مع العرب جميعا كان بنسبة 19% من مجمل التجارة مع العالم، ليصل نصيب دول الفائض العربي 6% من مجمل التجارة مع مصر ونصيب دول الخليج صاحبة العجز حوالي 13%.
عجز دولاري بالجهاز المصرفي خلال فبراير الماضى
ويظل السؤال: كيف يؤثر ذلك العجز التجاري على سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية خاصة الدولار؟ وتأتي الإجابة إلى أن قيمة العجز التجاري الكبيرة هي أكبر من قيمة الفائض بالتجارة الخدمية، المتحققة من السياحة وقناة السويس وخدمات النقل وغيرها من الخدمات، وتزيد عن تحويلات المصريين بالخارج وعن الاستثمار الأجنبي المباشر، مما يؤدي إلى الاقتراض المستمر لتغطية ذلك العجز بميزان المدفوعات.
الأمر الذي يضغط على سعر صرف الجنيه المصري، مما يؤدي إلى انخفاضه أمام الدولار، وهو مسلسل مستمر منذ عام 1967 وحتى الشهر الماضي طوال 55 عاما، ويتوقع تكراره خلال الفترة القادمة خاصة مع استمرار نقص الإيرادات السياحية ونقص الاستثمار الأجنبي المباشر.
وهو ما لا تعوّضه زيادة حصيلة قناة السويس بعد رفع قيمة الرسوم أكثر من مرة مؤخرًا، إلى جانب استمرار خروج الاستثمار الأجنبي المباشر من مصر بمعدلات مرتفعة خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد مظاهرات سبتمبر/أيلول 2019.
وها هو البنك المركزي المصري يعلن عن تحول صافي الأصول والالتزامات الأجنبية -العملات الأجنبية- بالجهاز المصرفي الذي يتضمن البنك المركزي والبنوك العاملة بمصر معا إلى العجز بقيمة 3.5 مليارات دولار خلال فبراير/شباط الماضي.
وهو أمر لم يحدث منذ عام 2016 والشهور القليلة التالية لتحرير سعر صرف الجنيه المصري، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وبما يشير إلى التأثير الواضح للعجز التجاري في نقص العملات الأجنبية، رغم جهود خفض الواردات من قبل وزارتي التجارة والمالية والبنك المركزي التي استطاعت خفض ذلك العجز من 52.4 مليار دولار فى عام 2015 إلى حوالي 40 مليار دولار بالعام الماضي.
ساعد على ذلك حالة الركود بالأسواق وانخفاض الطلب، وتراجع القوى الشرائية لعموم المستهلكين من قبل قرار التعويم عام 2016 وحتى الآن، مما يعنى أنه بمجرد أن تتحرك الأسواق ستزيد الواردات، وسيترفع العجز بالميزان التجاري ويستمر الضغط على سعر صرف الجنيه المصري.