المشقة التي تبيح الفطر في رمضان

فرض الله صوم رمضان على المسلم، ولكنه وضع له رخصًا تبيح له الفطر، ولأن كثيرا من الناس يتشدد في الرخص التي منحها الله للمسلم، بأن يشدد على الناس فيها، ويضيق فيها الفتوى، فقد أردت بهذا المقال أن نتعرف على نظرة الفقه الإسلامي والشريعة للمشقة التي تبيح للمسلم الفطر في رمضان، سواء كان عليه القضاء بعد رمضان، أو إطعام مسكين عن الأيام التي يفطرها بسبب المشقة.
إشكال قوله تعالى: “وعلى الذين يطيقونه”
هناك إشكال تعرض له الفقهاء، ورد في آية من آيات الصوم، وهي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة: 184، فهل الآية هنا تتحدث عن المشقة في الصوم، أو تتحدث عن إباحة الفطر لكل من يملك الفدية ولو كان مستطيعًا للصوم؟
لقد قرأت معظم ما قاله المفسرون والفقهاء في الآية الكريمة، ولم يطمئن قلبي وعقلي لمعظم ما قالوه، فإن ظاهر الآية يتيح لكل من يملك الفدية أن يفطر، ولكي يبتعد فهم الناس عن ذلك، اتجه كثير منهم إلى القول بأن الآية منسوخة، وقد نسختها آية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185، والحقيقة أن القول بالنسخ يحتاج إلى دليل، ويحتاج إلى معرفة تاريخ النزول، والتذرّع بالنسخ أصبح مسلكًا يتساهل فيه البعض للأسف.
وقد قرأت تعليلا عند عدد من فقهاء الأحناف، يقنع في فهم الآية الكريمة، إذ يقولون إن “قول ابن عباس رضي الله عنهما “ليست بمنسوخة” مقدم، لأنه مما لا يقال بالرأي بل عن سماع، لأنه مخالف لظاهر القرآن، ولأنه مثبت في نظم كتاب الله تعالى، فجعله منفيا بتقدير حرف النفي لا يقدم عليه إلا بسماع البتّة، وكثيرا ما يضمر حرف لا في اللغة العربية في التنزيل الكريم، {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} يوسف: 85، أي: لا تفتأ، ومنه {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} النساء: 176، أي: أن لا تضلوا، {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} النحل: 15، أي: لا تميد بكم”[1].
المشقة غير المرض
بعض الناس يخلط في تصوره لمبيحات الفطر في رمضان، فيخلط بين المشقة والمرض، فيقول: المرض الذي يبيح الفطر هو المرض الذي فيه مشقة، أو السفر الذي فيه مشقة، وهو خطأ يقع فيه كثيرون، لأن المرض والسفر في حد ذاتهما رخصة، والمشقة رخصة أخرى، فالسفر سواء كان مريحا أو متعبا فهو رخصة للفطر، كما أنه رخصة لقصر الصلاة الرباعية إلى ثنائية، فالعلة هنا السفر في حد ذاته، وليس المشقة، فالمشقة شيء آخر، والمرض درجة من درجات المشقة، لكن المشقة أعمّ.
أنواع المشقة التي تبيح الفطر في رمضان
والمشقة تختلف من زمن لآخر، فالأعمال التي تشتمل على مشقة، ولا يمكن العامل أن يتركها، ولا يمكنه أن يبحث عن عمل غيرها مثل من يعمل في مصانع الحديد والصلب، ويقف أمام أفران الحديد أو أفران الخبز في فصل الصيف، ويكون موعد عمله في النهار، فهذا لا يمكنه الصوم، ومثل هذه الحالة، إذا لم يوجد تطور في المهنة بأن يكون بعيدا عن النيران وحرارتها الشديدة، وأصبح لديه مشقة أن يجمع بين عمله وصومه، فمثل هذا يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا.
وهو ما فطن إليه الإمام محمد عبده، فكتب في تفسير المنار[2]، عمن يعملون في أشغال شاقة، كالمناجم، أو من حكم عليه بالسجن والأشغال الشاقة المؤبدة، التي كانت تشتمل على تكسير الحجارة في الجبال يوميا، فهذا لا يمكنه الصوم، فأفتى بجواز فطرهم.
طائفة المعمار في البلاد الحارة
ومن المهن التي يشق فيها على القائم بها الصوم: العمال في المعمار، وبخاصة في الصيف، وبخاصة أكثر في بلدان كدول الخليج، التي تكون درجة الحرارة فيها شديدة، والرطوبة خانقة، ورغم محاولة حكومات هذه الدول، وحقوق الإنسان، تقليل ساعات العمل، لكنها تظل في النهاية مهنًا شاقّة، ويصعب على كثير من الناس فيها الجمع بين الصوم والعمل، فمن لم يستطع أن يجعل إجازته من العمل في شهر رمضان، فهو مضطر للفطر للمشقة الشديدة هنا، وعليه القضاء بعد رمضان إن استطاع، وإلا كانت عليه الفدية، إذا كان عمله مستمرا، في نفس الظروف.
ولذا نرى في مصر هذه الطائفة من العمال كانت تجعل عملها ليلا بعد الإفطار، وحتى أذان الفجر، حتى لا يشق عليها الصوم، رغم أن مصر معظم مناخها معتدل ما عدا أشهر الصيف التي لم تعد تطاق بدون أدوات تبريد، كالمراوح والتكييفات.
الفطر لأجل مشقة الامتحانات
وبعض الطلبة لا يمكنه أن يمتحن وهو صافي الذهن ومتوقد الذكاء في حالة الصيام، بل يجد مشقة في استحضار المعلومة، وامتحانه يبنى عليه مستقبله العلمي، وهي حالة تبيح له الفطر من هذا الباب، أما الفطر لعلة الدراسة بشكل عام فلا، لأنه يمكنه تعويض ذلك بالمذاكرة في وقت آخر، أو يراجع ما حصله في دراسته، لكن الامتحان لا يمكن تعويضه، فيمكنه إذا شق عليه ذلك أن يفطر، ويقضي بعد رمضان.
من غلبه الجوع والعطش ويخشى الهلاك
ومما يدخل في باب المشقة التي توجب على صاحبها الفطر، من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك، وإن كان صحيحا ومقيما، وليس مريضا ولا مسافرا، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} النساء: 29 [3]. ويلزمه القضاء كالمريض [4].
كيف نعرف المشقة؟
وقد بين معظم الأصوليين الذين تحدثوا عن المشقة بعض مظاهرها، لكنهم تركوا تحديدها بدقّة وتنزيها على واقع الأشخاص لنظر المفتي واجتهاده المبني على العرف[5]، كما أن ذلك متروك أيضا لتقدير الإنسان المسلم، فإنه قبل كل شيء يخشى الله فيما يفعل.
——————————————
[1] انظر: المبسوط للسرخسي (3/100)، وشرح فتح القدير لابن الهمام (2/256)، والبناية للعيني 4/84).
[2] انظر: تفسير المنار (2/126،125).
[3] انظر: فقه الصيام للدكتور يوسف القرضاوي ص: 58.
[4] انظر: المجموع للنووي (6/258).
[5] انظر: الوسيط في شرح القواعد الفقهية الكبرى للدكتور أحسن لحساسنة ص: 228،227.
