جامع الخِرقة الشريفة.. هنا عباءة رسول الله

من أبرز معالم مدينة إسطنبول التي يلاحظها الزوار تلك الجوامع العثمانية الضخمة البناء، ذات الباحات الداخلية الكبيرة، وما يحيط بها من حدائق واسعة غناء، إلا أن جامع الخرقة الشريفة أو “هيركه شريفة” كما يُنطق باللغة التركية، جاء مخالفا لهذه المنظومة المعمارية، فهو جامع صغير نسبيًّا محدود المساحة، كما أنه يبتعد في عمارته كثيرا عن الطراز العثماني الكلاسيكي المتعارف عليه في بناء المساجد؛ إذ يبدو أكثر تأثّرًا بالطراز المعماري الأوربي. ويعود ذلك على الأغلب إلى أنه بُني في فترة حكم السلطان عبد المجيد الأول وبأمر منه، وهو المعروف بولعه الشديد بكل ما هو أوربي، بحكم تعليمه الغربي وانتمائه لنسق الحياة الأوربية، خاصة أنه كان يجيد الفرنسية بطلاقة مما ساعده كثيرا على أن ينهل من المعارف والعلوم الغربية.
الخرقة الشريفة عباءة النبي صلى الله عليه وسلم
وجامع الخرقة الشريفة الذي يقع بالجزء الأوربي من مدينة إسطنبول بمنطقة الفاتح الشهيرة، في أحد الشوارع الجانبية المقابلة لجامع السلطان محمد الفاتح، بُنِي خصّيصًا لتُحفظ به عباءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي جُلِبت إلى إسطنبول عام 1516م، وحُفظت في أحد قصور الدولة العثمانية مدّة طويلة، ولم تُخرَج منه لتُعرَض للناس. وقد أُطلِق هذا الاسم الذي على الجامع منذ ذلك الوقت، والخِرقة في اللغة التركية تعني القماش المنسوج من الصوف الخالص أو العباءة أو السترة.
ويقال إن هذه العباءة هي العباءة التي أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام بمنحها للتابعي أويس القرني، الذي أدرك زمن النبي الكريم لكنه لم يلتقه، إلا أنه صلى الله عليه وسلم شهد له بقوة الإيمان وصلاح السريرة، وببره بوالدته. وقد قام الصحابة رضوان الله عليهم بتنفيذ الوصية النبوية الشريفة، وانتقل أويس القرني فيما بعد إلى الكوفة بالعراق، واستشهد في معركة صفين سنة 657هـ، حيث كان يقاتل إلى جانب سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد بقيت البردة الشريفة لدى إخوة أويس الذين غادروا الكوفة إلى شمال العراق، ومنه إلى الأناضول، وتحديدا منطقة كوش أضاسي، حيث تم استدعاء أفراد العائلة إلى مدينة إسطنبول، التي استلمت الأمانة الشريفة وتكفلت برعايتها والمحافظة عليها عبر 59 جيلًا من أحفاد التابعي أويس القرني الذين استُقدِموا ليقوموا بمهمة الحفاظ على البردة الشريفة من التلف، ويتولوا رعايتها بأنفسهم، لتصبح إسطنبول محطتهم ومحطتها الأخيرة.

الاحتفاظ بالعباءة الشريفة في صندوق مغلق
وحينما تولى السلطان عبد المجيد الأول حُكم الإمبراطورية العثمانية أمر عام 1851م ببناء جامع خصّيصًا لعباءة الرسول صلى الله عليه وسلم، واهتم اهتماما بالغا بعمارته وتصميمه وتقسيماته الداخلية لخدمة الغرض الأساسي الذي أنشئ من أجله، وهو الحفاظ على الأمانة النبوية الشريفة، واستغرق البناء أربع سنوات كاملة، وكان عبد المجيد شديد الحرص على إقامة مكان لإقامة الصلاة فيه، ومكان منفصل لحفظ العباءة الشريفة.
والجامع يتميز إلى جانب ذلك بقبته الواسعة التي تتوسط صحنه، وتقف على جانبيها المئذنتان، وتزينه من الداخل العديد من الآيات القرآنية المكتوبة بخط عربي جميل، أما حديقته فهي صغيرة نسبيا، ويحيط به من جميع الجوانب سورٌ قصير له باب رئيسي يستخدمه المصلون والزائرون.
ورغم وجود البردة الشريفة محفوظة داخل صندوق خاص في هذا الجامع، فلم يفكر أحد في إخراجها وعرضها على عامة الناس لإتاحة الفرصة لهم لمشاهدتها وإمتاع أنظارهم برؤيتها والتبرك ببركة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، لتظل مدة من الزمن حبيسة ذلك الصندوق الذي صنع خصّيصًا لحفظها من الضياع أو التلف.

عبد الحميد الثاني يأمر بعرض العباءة الشريفة على العامة في رمضان
وعندما تولى السلطان عبد الحميد الثاني الحكم أمر بفتح الصندوق وإخراج البردة الشريفة، ووضعها بالقاعة التي تم تشييدها خصيصا لهذا الغرض، وعرضها على العامة طوال أيام شهر رمضان الكريم، لكي يتمكنوا من رؤية عباءة رسولهم الكريم، والتبرك بها لما تمثله من معاني دينية وروحانية عظيمة لدى المسلمين، وهو التقليد الذي لا يزال متّبعًا إلى اليوم.
ونتيجة للاحتفاظ بالبردة الشريفة فترة طويلة داخل صندوق مغلق، فقد تعرضت بعض أجزائها للتلف بسبب سوء التخزين، وطريقة الحفظ التي كانت متبعة في ذلك الوقت، ثم تم القيام بعمل الترميمات اللازمة لإعادتها إلى هيئتها الأصلية مع مراعاة عدم المساس بشكل نسيجها الأصلي أو لونها، وخلال عملية الترميم التي استغرقت حوالي عامين اكتشف المرممون خلو البردة الشريفة تماما من أي نوع من أنواع الميكروبات التي عادة ما تنتشر في الألبسة والمنسوجات المحفوظة لفترة طويلة، وهذا على عكس عمامة وحزام أويس القرني المحفوظين مع البردة الشريفة في نفس الصندوق.
وإلى جانب البردة الشريفة يعرض القائمون على الجامع عددا من القطع الأثرية القديمة التي يعود تاريخها إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها بضع شعرات من ذقنه الشريف، وقطعة قماش من كسوة الكعبة الداخلية، وأخرى من كسوتها الخارجية، إلى جانب عدد من الأدوات التي كانت تستخدم في غسل وتنظيف الكعبة من الداخل.
ويفتح الجامع أبوابه للزائرين الراغبين في مشاهدة البردة الشريفة طوال شهر رمضان الكريم، خلال ساعات النهار حتى موعد أذان المغرب، أما في ليلة القدر فتمتد الزيارة إلى قبيل أذان الفجر، حيث يشهد توافدا كثيفا وازدحاما من الزائرين الذين يتراصون في صفوف طويلة، ويقدر عددهم بأكثر من مليون زائر يأتون من جميع أرجاء تركيا ومن بعض الدول الإسلامية، في مشهد مهيب أصبح يمثل واحدا من أبرز الطقوس الرمضانية لدى المسلمين سواء الأتراك أو المقيمين وحتى السائحين.
