الطريق إلى أوكرانيا (2) تمدد حلف الناتو

تعود فكرة إنشاء حلف شمال الأطلسي، المعروف اختصاراً باسم الناتو (NATO) إلى عام 1949، عندما قامت كل من المملكة المتحدة وفرنسا بتوقيع “معاهدة دونكيرك” باعتبارها اتفاقا لتحالف مشترك ضد أي هجوم محتمل من ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم شاركت الدولتان مع (10) دول أخرى، في التوقيع على اتفاقية واشنطن المؤسسة للحلف (الولايات المتحدة، بلجيكا، كندا، الدنمارك، أيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج، البرتغال)، ويتخذ الحلف من العاصمة البلجيكية بروكسل مقرا لقيادته، وتأسّس الحلف لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي: مواجهة نفوذ وتمدد الاتحاد السوفيتي، والقضاء على الصراع العسكري الذي كان بين الدول الأوربية، بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال حضور أكبر للولايات المتحدة في القارة، وكذلك العمل على تشجيع الأوربيين على اندماج سياسي أكبر.
وتوالى انضمام الدول إلى الحلف، حيث انضمت تركيا واليونان (1952) وألمانيا الغربية (1955) وإسبانيا (1982) ومع انهيار الاتحاد السوفيتي 1991، شهد الحلف العديد من التحولات الاستراتيجية، وبدلاً من تراجع الدور بناء على أن الخطر الأكبر الذي تأسس الحلف من أجله قد انهار (الاتحاد السوفيتي)، حدث العكس واتجه الحلف على تطوير وتحديث توجهاته الاستراتيجية، فقام في عام 1994، بالإعلان عن مبادرة “الشراكة من أجل السلام” تحت مسمى دعم العلاقة مع البلدان التي تقع على أطراف الحلف الأطلسي، مثل البوسنة وصربيا والجبل الأسود، والتعاون معها.
وتمثلت أهداف المبادرة في: الوضوح في تخطيط الدفاع الوطني والميزانيات العسكرية، وتأكيد السيطرة المدنية على القوات المسلحة، والمساهمة في الأعمال التي تجرى بموافقة الأمم المتحدة، أو مؤتمر الأمن والتعاون في أوربا، وتطوير علاقات التعاون بين الدول المشاركة، وحلف شمال الأطلسي، بهدف التخطيط المشترك، والتدريبات الرامية إلى القيام بمهام حفظ السلام، والعمليات الإنسانية الأخرى التي يجرى الاتفاق عليها، وتطوير وتأهيل القوات على المدى البعيد، لتكون قادرة على العمل مع قوات الحلف، والتشاور مع الحلف، للمشاركة الفعالة لمواجهة التهديدات المباشرة، للوحدة الإقليمية، أو الاستقلال السياسي، أو الأمن الوطني لهذه الدول.
الحلف بين التمدد شرقاً والموقف من روسيا
وفي عام 1997 تم التوقيع على اتفاق تأسيسي تحت مسمى (الناتو ـ روسيا) وبموجبه تم منح روسيا دوراً استشارياً، في مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك، إلا أن هذا الاتفاق لم يمنع انضمام عدد من دول شرق أوربا، بل وجمهوريات الاتحاد السابق من الانضمام للحلف، ففي عام 1999 انضمت جمهوريات التشيك والمجر وبولندا، وبدلاً من أن يكون انضمام بولندا تحديداً مصدراً لأزمة بين روسيا والغرب، على اعتبار أن بولندا كانت مقر حلف وارسو، حدث العكس، وتناول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إمكانية انضمام روسيا إلى حلف الناتو، في اتصال مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الذي رد بقوله: “ليس لدي اعتراض”.
لكن قادة الحلف تحفظوا على هذا الطلب، واستندوا في قرارهم إلى عدد من الاعتبارات الأساسية، من بينها: أن روسيا دولة غير مستقرة ولا تنطبق عليها شروط الانضمام في المدى المنظور، وأنها دولة كبيرة، وضمها إلى الحلف يؤدى إلى تغييرات جوهرية ويمنحها حق “فيتو” على قرارات الحلف، كما أن ضمها يعنى مد الضمانات الأمنية للحلف، وفق المادة الخامسة من اتفاقية واشنطن، إلى حدود الصين ومنغوليا، وكذلك القول بأن ضم روسيا، يؤدى إلى فقدان الحلف لسمته الدفاعية، وتحويله إلى منظمة للأمن الجماعي على غرار الأمم المتحدة. وهو غاية ما تهدف إليه موسكو منذ المراحل الأولى لظهور الحلف، إذ إنها طلبت دخول الحلف عام 1954 ودعت إلى معاهدة للأمن الأوربي، قبل أن تقوم بتأسيس حلف وارسو عام 1955.
وفي عام 2002، ومع بداية الصراع في كوسوفو، تم تفعيل مجلس “الناتو ـ روسيا” بشكل رسمي ليبدأ بعدها الحلف في ضم المزيد من دول شرق أوربا إلى عضويته، فانضمت كل من بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا بين عامي 2004 و2008، كما أعلن الحلف في عام 2008، قبوله طلبات انضمام كل من أوكرانيا وجورجيا والبوسنة والهرسك للحلف (تحت مسمى فئة الدول الطامحة للانضمام للحلف)، بعد استكمال الإجراءات المطلوبة، وفي يناير/كانون الثاني 2009 انضمت كل من كرواتيا وألبانيا إلى الحلف ليصبح عدد أعضائه 28 عضواً، حتى كان انضمام الجبل الأسود في يونيو/ حزيران 2017، ومقدونيا الشمالية في مارس 2020، ليصبح عدد أعضاء الحلف 30 عضواً.
استراتيجية 2010 وإعادة بناء الرؤية المستقبلية للحلف
في نوفمبر 2010، تم إعلان الرؤية الاستراتيجية للحلف تحت عنوان (المفهوم الاستراتيجي للدفاع والأمن للدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي: انخراط نشط ونظام دفاعي حديث)، والتي تضمنت الركائز الأساسية للتوجهات المستقبلية للحزب، والتي من بينها:
1ـ الحفاظ على حرية وأمن كل مواطني الدول الأعضاء عبر وسائل سياسية وعسكرية.
2ـ الالتزام بشكل راسخ بغايات ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وبمعاهدة واشنطن، التي تؤكد على أن مهمة مجلس الأمن الدولي الرئيسية تكمن في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
3ـ التأكيد على أن أمن الدول الأعضاء في الناتو على ضفتي الأطلسي غير قابل للتجزئة، وسيتم الدفاع عنها على أساس التضامن والأهداف المشتركة وفق تقاسم عادل للأعباء.
4ـ أن المناخ الأمني الراهن يحتوي على طيف واسع من التحديات المتجددة لأمن منطقة حلف شمال الأطلسي وشعب دوله الاعضاء. ولضمان الأمن فينبغي على التحالف الاستمرار في الوفاء بفاعلية بثلاث مهام جوهرية، تسهم جميعها في حماية أعضاء التحالف دائما وفقا للقانون الدولي:
(أ) الدفاع المشترك: سيساعد أعضاء الناتو على الدوام بعضهم البعض في التصدي للهجمات، استنادا إلى البند الخامس لمعاهدة واشنطن، ويظل هذا الالتزام راسخا وملزماً، في حال استهدفت جوهر أمن الدول الاعضاء بصفة منفردة أو التحالف ككل.
(ب) إدارة الازمات: سيوظف الحلف بشكل نشط مزيجا من الآليات السياسية والعسكرية المناسبة للمساعدة على إدارة الأزمات التي بوسعها التأثير على أمن التحالف؛ قبل بلوغها مرحلة التصعيد والتطور إلى صراعات؛ وكذلك إيقاف أية صراعات جارية من شأنها التأثير على أمن التحالف، أو المساعدة في تعزيز الاستقرار في مراحل ما بعد الصراعات بغية الاسهام في ضمان الأمن الأور-أطلسي.
(ج) التعاون الأمني: سوف ينخرط التحالف بشكل نشط للارتقاء بالأمن الدولي عبر شراكات مع الدول ذات الصلة وغيرها من المنظمات الدولية، وبالإسهام بشكل نشط في الحد من التسلح وعدم الانتشار ونزع السلاح وبالإبقاء على باب العضوية في شمال الأطلسي مفتوحا أمام الديمقراطيات الأوربية التي تستوفي المعايير المعتمدة لدى الناتو.
وفي إطار هذه الركائز كانت هناك بنود شديدة الأهمية تناولتها الاستراتيجية فيما يتعلق بروسيا، من ناحية والدول الراغبة في الانضمام من ناحية ثانية، وذلك في البنود (33 ـ 34 ـ 35) والتي نصت على:
مادة (33): “يكتسب تعاون الناتو ـ روسيا أهمية استراتيجية لأنه يسهم في خلق منطقة سلام وأمن واستقرار مشتركة، فالحلف لا يشكل تهديداً لروسياً، بل نريد أن نرى شراكة استراتيجية حقيقية بين الناتو وروسيا، وعلى هذا الأساس، سنعمل وفق مفهوم المعاملة بالمثل”.
مادة (34): “إن العلاقات بين روسيا والناتو ترتكز على أهداف ومبادئ والتزامات القانون التأسيسي لمجلس شمال الأطلسي ـ روسيا (1997)، وكذلك على إعلان روما، وخاصة فيما يتعلق باحترام مبادئ الديمقراطية وسيادة واستقلال ووحدة أراضي كل الدول في المنطقة الأورـأطلسية. وبالرغم من وجود خلافات حول قضايا محددة، نبقى على قناعة بتشابك أمن شمال الأطلسي وروسيا وبأن شراكة قوية وبناءة مبنية على الثقة المتبادلة والشفافية وقابلية التنبؤ بوسعها خدمة أمننا بشكل أفضل”.
مادة (35): “إن مجلس الشراكة الأورـ أطلسي والشراكة من أجل السلام هما في صلب رؤيتنا لأوربا متكاملة حرة وتعيش بسلام. نحن ملتزمون بقوة على تطوير علاقات الصداقة والتعاون مع كافة بلدان المتوسط ولدينا النية في الارتقاء بالحوار المتوسطي خلال السنوات القادمة، ولذلك نولي أهمية كبيرة للسلام والاستقرار في منطقة الخليج ولدينا النية لتقوية تعاوننا ضمن إطار مبادرة إسطنبول للتعاون، وسنعمل على: مواصلة وتعزيز الشراكة مع أوكرانيا وجورجيا في إطار لجنتي (الناتوـ أوكرانيا) و(الناتو ـ جورجيا)، على أساس قرار الناتو خلال قمة بخارست 2008، مع الأخذ بعين الاعتبار التوجهات الأورأطلسية وآمال كلا البلدين، مع تسهيل الاندماج الأوربي ـ الأطلسي لدول غرب البلقان من أجل تأمين السلام الدائم والاستقرار المستند إلى قيم الديمقراطية والتعاون الإقليمي وعلاقات حسن الجوار).
الحلف بين خرائط الانتشار والقدرة على مواجهة الأخطار
يقوم الهيكل التنظيمي للحلف على “مجلس شمال الأطلسي”، الذي يُشكل الهيئة الرئيسية لاتخاذ القرارات السياسية في الحلف، ويرأسه الأمين العام للحلف، كما يضم الحلف شبكة من اللجان تتولى التعامل مع جميع الموضوعات المدرجة في جدول أعمالها، وعند تنفيذ قرارات سياسية لها اعتبارات عسكرية، تكون الجهات الفاعلة الرئيسية المشاركة هي اللجنة العسكرية وهيكل القيادة العسكرية، ويمتلك الحلف قوات دائمة محدودة تحت تصرفه، وعند موافقته على عملية عسكرية، تشارك الدول الأعضاء بقواتها على أساس تطوعي.
ويبلغ مجموع الجنود في الدول الأعضاء نحو 3.5 ملايين جندي، منها حوالي مليون و200 ألف جندي من الولايات المتحدة، ينتشر 20% منهم في الخارج، والعدد الأكبر منهم في اليابان (55 ألفاً)، وتتركز خرائط انتشار قوات الناتو في دول البلطيق بدرجة أساسية بالقرب من الحدود الروسية، حيث يتوزع 7 آلاف جندي في كل من إستونيا (800 جندي) ولاتفيا (1200 جندي) وليتوانيا (1200 جندي) وبولندا (4 آلاف جندي)، بجانب وجود قواعد عسكرية أمريكية في بولندا، وقاعدة في رومانيا، كما تنتشر فرقة من البحرية الأمريكية قوامها 300 جندي في النرويج لمراقبة الدائرة القطبية الشمالية، التي تتشارك فيها الحدود مع روسيا، ويبلغ مجموع النفقات العسكرية لدول الحلف نحو 1.3 تريليون دولار، منها 900 مليار نصيب الولايات المتحدة، تليها المملكة المتحدة (72 مليار دولار) ثم ألمانيا (64 مليار دولار) قبل أن تقرر رفعها إلى 100 مليار على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.
وقد نصت الفقرة الخامسة من المادة الخامسة لميثاق تأسيس الحلف على: “تتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح ضد أي عضو أو أكثر في الحلف سواء في أوربا أو أمريكا الشمالية، يعد هجوما ضد جميع أعضاء الحلف. وعلى إثر ذلك، يتفق الأعضاء في الحلف على أنه في حالة وقوع هجوم مسلح يحق لجميع الأعضاء ممارسة حق الدفاع عن النفس بشكل أحادي أو جماعي بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لمساعدة العضو أو الأعضاء الذين تعرضوا لهجوم بكافة الوسائل الممكنة فورا سواء بشكل أحادي أو جماعي بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة الأمن في منطقة شمال الأطلسي والحفاظ عليه”. وقد تم تفعيل هذه المادة، قبل الحرب الروسية ـ الأوكرانية 2022، مرة واحدة من قبل الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول عام 2001، ثم تم الإعلان عن تفعليها من جانب دول البلطيق وبولندا مع تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن تمدد حلف الناتو، وتطوير استراتيجياته وأدواته وخرائط انتشاره، كانت من بين أهم الأسباب الدافعة للعدوان الروسي على جورجيا 2008، ثم على أوكرانيا، سواء عام 2014 عندما احتل شبه جزيرة القرم، أو عندما قام بحربه الشاملة على أراضيها فبراير 2022، وكذلك في تهديد روسيا بالهجوم على كل من فنلندا والسويد إذا قامتا بتفعيل طلبات الانضمام للحلف، لأن هذا التمدد وذلك الانتشار جعل قوات الناتو وقواعده العسكرية على الحدود المباشرة لروسيا الاتحادية، وما يعنيه ذلك من تفاقم التهديدات لأمنها القومي، من ناحية ووأد لاستراتيجية استعادة الإمبراطورية التي يتبناها بوتين، من ناحية ثانية.