بعد شنغهاي بيجين تحتج: لن نلدغ من جحر مرتين!

تعيش مدينة بيجين أحلك أيامها مع عودة انتشار كورونا من جديد. ينتاب الناس الذعر، رغم أن عدد المصابين، حتى مطلع الشهر الحالي، لم يربُ عن 200 شخص من بين 22 مليون نسمة، هم سكان العاصمة. فقد الناس الثقة في إدارة الحكومة لحملات مكافحة الوباء التي ضاقوا بها ذرعًا، وتودي بحياتهم وعجلة الاقتصاد إلى التهلكة.
تحاول الحكومة تهدئة مخاوف المواطنين، فإذا بها تحشد 139 ألف عامل، لإجراء اختبار لجميع السكان 3 مرات متتالية خلال أسبوع. أجلست الطلاب في المنازل، وعزلت أحياءً في المنطقة المركزية المليئة بمكاتب الوزارات، ومنعت الأنشطة الرياضية والثقافية والتجارية. قالت لجنة الحزب الشيوعي في بيجين “إن الوضع الوبائي شديد ومعقد”.
استبق المواطنون الأحداث بهرولتهم على محال البقالة والأسواق، منذ أعلنت أجهزة الإعلام في 11 أبريل الماضي أنه “لا خوف على ظهور وباء كورونا في بيجين”.
اعتاد الناس السمع والطاعة لتعليمات الحكومة في بلد يحكمها نظام استبدادي غاشم، ولكن عندما تعلق الأمر بمصيرهم، لم تعد لديهم القدرة على إنكار ما يرونه بأعينهم، من ممارسات لا إنسانية وأخطاء طبية تعرض لها آلاف من أصحاب الأمراض المزمنة والطارئة، فالدولة بأدواتها وقواتها مسخرة لتطبيق سياسة “صفر كوفيد”، كما يريد رئيس الدولة. من ظل على ثقة بأن هناك سلطة ستتصرف، لأنها ترى ما لا يراه، أكثرهم لا يثقون في أجهزة الإعلام، التي تهتم بنشر “قصص وبطولات مزيفة”، يرون أنها لا تمت للواقع بصلة، بينما لا تنشر أية أخبار عما يدور حولهم من واقعهم المرير، لذلك عندما قال الإعلام إن “الوضع في بيجين تمام، ولا مشكلة في الغذاء”، افترض الناس العكس تمامًا، وكتبوا ساخرين على مواقع الإنترنت “أسرع واذهب للتسوق الآن!”.
الأسواق فارغة
يقوم سكان بيجين والمدن الكبرى المائة، التي تشكل ثلاثة أرباع الاقتصاد الصيني، بتخزين الطعام بما يفوق حاجتهم. فرغت المحال، والناس تحذر بعضها من الوقوع في الأخطاء نفسها التي ارتكبها أهالي شنغهاي، حينما التزموا منازلهم فورًا، لمجرد طلب ذلك من الحكومة، “كإجراء احترازي سيستغرق ساعات”. التزم الناس الطاعة، وتواصل الحصار للأسبوع الخامس على التوالي، فتعرضوا للموت جوعًا داخل بيوتهم في مدينة يسكنها 25 مليون نسمة، ممنوع عليهم التحرك فيها، أو دخول أية شاحنات أو مأكولات، وكأنهم تحت حصار حربي مريع.
لا يريد الناس في بيجين ومن حولها، أن يلدغوا من نفس الجحر مرتين، خاصة بعد أن ضربت شنغهاي أمثلة في فنون الاحتجاج الشعبي، بالتعبير عن غضبهم الشديد من العشوائية التي تنفذ بها السلطات إجراءات الحجر الصحي، والمستوى المتدني لمراكز الإيواء.
فنون الاحتجاج
أظهر سكان شنغهاي الطعام المتعفن، الذي وزعته الحكومة عليهم في المنازل، بعد أيام تحت الحصار القاتل، ليفضحوا وسائل الإعلام، التي نشرت أفلامًا عن “الطعام الطازج والجيد”، الذي قدمته للمحاصرين. نشروا الفضائح على شبكات الإنترنت، وعندما انتبهت الحكومة أمرت بحذفه، لكن الرسائل وصلت إلى مئات الملايين. شكل الناس تحالفًا، يعيد نشر المحذوفات من جديد، بما خلق سباقًا طغى على قدرة الحكومة على فرض الرقابة كعادتها كاملة، ومواكبة المنشورات الشعبية. تحدث الناس، ومنهم شخصيات مشهورة ورجال أعمال، عن فشل إدارة الحزب الشيوعي للأزمة، في العاصمة الاقتصادية للدولة، التي تضم أكثر الموانئ ازدحامًا، وأهم بورصة أوراق مالية، ومقرات إدارية لأكبر 500 شركة عالمية، بما دفع مسؤوليها للتفكير بجدية في ترك العمل من الصين، إذا استمرت تلك “السياسة الفاشلة”، في مواجهة “صفر وباء”.
شارك عدد من المواطنين، في مقطع فيديو مدته 6 دقائق، بعنوان “أصوات أبريل”، يضم صورًا بالأبيض والأسود لأهم معالم المدينة، وتسجيلات صوتية لأناس يصرخون وينادون على مسؤولي الحكومة من النوافذ، يتوسلون طلبًا لمأكولات، ونقل مرضى للمستشفى. حذفت السلطات الفيديو الذي نشره مجهول لأول مرة، ومارس الجمهور لعبة القط والفأر مع الدولة، ليستمر الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في داخل الصين وخارجها. يرفض الناس أن يلقوا مصير نفسه. الدكتور لي وين ليانغ، الذي اكتشف بؤرة الوباء في مدينة ووهان، ورفضت السلطات الاستماع لنصائحه، ووضعته في السجن، حتى مات بالوباء نفسه قبل عامين، وظلت متكتمه على الكارثة أيامًا عدة، حتى انتشر المرض وتسرب للعالم.
جدار الصمت الناري
تمارس الحكومة رقابة أشد قسوة، من العامين الماضيين، وهي تجهز لاجتماع تاريخي للحزب الشيوعي في الخريف المقبل، سيمنح المرشد الأعلى شي جين بينغ، فرصة الترشح للرئاسة للمرة الثالثة، وربما إلى الأبد. تمكن أهل شنغهاي، بما لديهم من خبرات باللغات الأجنبية، وقدرات تكنولوجية، من كسر جدار الصمت، الذي يفرضه الحزب الشيوعي بقسوة. فضخ الناس عبر “بود كاست” حالات إهمال المرضى الأكبر سنًا والمعاقين، وهم يكافحون من أجل استخدام مراحيض القرفصاء، أو يطلبون النجدة من أجل إرسالهم إلى مستشفيات حقيقية بدلًا من “معسكرات الإيواء”.
أثناء فرض الرقابة على “البود كاست” كانت الرسائل قد تسربت إلى الصحف العالمية، وعلى رأسها “تايم، ونيويورك تايمز وفايننشيال تايمز وبلومبرج”، وأعيد نشرها في مدونات أخرى ليشاهدها عشرات الملايين.
تراجع اليوان
بعد انتشار الوباء في عشرين مقاطعة، تراجعت قيمة العملة، الأسبوع الماضي، بما لم يحدث منذ 7 سنوات. هبطت أسعار الأسهم في بورصة شنغهاي بعد توقف المصانع والمتاجر لأسابيع عدة. انخفض الاحتياطي النقدي من 4 تريليون إلى 3.2 تريليون دولار.
أنفقت الدولة 460 مليار دولار على مواجهة وباء، وترفض التعايش معه دون الصفر كوفيد، طاعة للرئيس، ويرفض كبار السن تعاطي الدواء، من بينهم سكان شنغهاي، لشكهم في فاعليته. لم تعد الحكومة قادرة على ضخ سيولة في الأسواق، تنشط بها حركة اقتصاد، يدخل في حالة من التباطؤ والركود، لإصرارها على مواجهة الوباء بقرارات أمنية، تعلّم الشعب كيف يلتف عليها بسهولة؟