الجدار العازل في بيت “أبو الهنا”.. راجعين يا هوى

محمد سليمان عبد المالك

يجتمع “بليغ أبو الهنا” مع أفراد عائلته جميعهم على طاولة ليبلغهم أنه مديون بخمسة ملايين يورو، ويبلغهم أنه لا يريد نصيبه من الميراث، وكل غايته تسديد ديونه، فالعائلة في مأزق، ولا بد من تجمعهم معًا ليتوافقوا على حل لتلك المشكلة، تنقلب الطاولة رأسًا على عقب بين أفراد العائلة التي صنعت منهم سنوات غربة بليغ في أوربا أعداء أكثر منهم عائلة واحدة، يظنونه كاذبًا، لكن تمضي الأيام لتثبت صدق “بليغ”، ويمتد الخطر ليطول مستقبل الأسرة حين يختطف الدائن طفلًا من أطفال العائلة، فينتبه الجميع ويتكاتفوا لإنقاذ الطفل.

هذا المشهد يقع ضمن أحداث مسلسل (راجعين يا هوى) الذي عرض في رمضان الماضي عن مسلسل إذاعي للكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة قدّم في عام 2004، قبل رحيله بست سنوات، وقد نجح الكاتب الدرامي محمد سليمان عبد المالك أن يحافظ على روح أسامة في النص الإذاعي، ويقدم نصًا تليفزيونيًا متميزًا.

ما بين الدراما الإذاعية والتليفزيونية

فرق كبير بين أدوات الدراما الإذاعية التي تعتمد على الأداء الصوتي والمؤثرات الصوتية وخيال المستمع، والدراما التليفزيونية التي تمتلك صورة وإضاءة وحركة وديكورات، أيضًا هناك مساحة زمنية بين المسلسل الإذاعي الذي قدّمه يحيى الفخراني ومنة شلبي ومعالي زايد في 30 حلقة، مدة كل حلقة 15 دقيقة، والمسلسل التليفزيوني الذي زادت مدة حلقته عن ثلاثين دقيقة، ومن يعرف أسامة وكتابته يدرك صعوبة نصه التليفزيوني، فسيناريو أعماله التليفزيونية دقيق جدًا، ومن الممكن لمخرج يبدأ مشواره معه أن ينفّذ أعماله من دون اجتهاد، ولكن النص في (راجعين يا هوى) إذاعي حوّله ببراعة محمد سليمان عبدالمالك تليفزيونيًا جذابًا، محافظًا على الخطوط العريضة في دراما عكاشة، حيث العائلة محور من محاور تلك الدراما ستجدها في أعماله (الشهد والدموع) عائلة حافظ رضوان، في (ليالي الحلمية) عائلة البدري وعائلة غانم، في (زيزينيا) عائلة عبد الظاهر، أيضًا ستجد التراث المعماري والحفاظ عليه وقضية الجذور والارتباط بها في مواجهة هجمات الرأسماليين الجدد نتاج الانفتاح الاقتصادي المصري كما في (أرابيسك) فيلا برهان، (الرايا البيضا)، فيلا أبو الغار، (راجعين يا هوى) بيت الجمالية، أما شخصية العائد من الغربة بعد رحلة في بلاد فستجدها أيضًا في دراما عكاشة من (أبواب المدينة) لـ(الرايا البيضا) لـ( أربيسك)، تلك الخطوط الدرامية التي تمسّك بها محمد سليمان عبدالمالك مع المخرج الشاب محمد سلامة الذي قدّم ثاني عمل تليفزيوني بعد اشتراكه في مسلسل (الأب الروحي) مخرجًا، وبعد عملين سينمائيين.

محمد سليمان عبد المالك

كاتب النص التليفزيوني محمد سليمان عبدالمالك خريج كلية الطب قدّم أعمالًا تليفزيونية بلغت 31 عملًا دراميًا ما بين سينمائي وتليفزيوني بجوار أعمال متنوعة للأطفال مثل (عصام والمصباح)، وبعض الأعمال الكوميدية (تامر وشوقيه) و(العيادة)، ولكنه يمتلك أعمالًا درامية مميزة مثل فيلمه (عزبة آدم) إنتاج 2009، فيلم (شد أجزاء) 2015، ومجموعة من المسلسلات التليفزيونية منها (باب الخلق)، (اسم مؤقت)، (ممالك النار)، (فرق توقيت)، (خيط حرير)، (مليكة)، وتتميز هذه الأعمال بالقدرة الفائقة على صياغة الخطوط الدرامية وبناء الشخصيات وتأسيسها، والصراع الدرامي المكتوب بخبرة جيدة، وقد قال عبدالمالك إن أسامة كان له تأثير كبير فيه خاصة مسلسل (أرابيسك)، وقد جاءت مشاهد من مسلسلي (أرابيسك) و(ليالي الحلمية) في بعض حلقات (راجعين يا هوى) أثناء مشاهدة عائلة “أبو الهنا” للتليفزيون في فيلا “أبو الهنا” تكريمًا لأعمال عكاشة.

نجوم في مسلسل راجعين يا هوى

استطاع خالد النبوي البطل الرئيس للمسلسل تقديم دور جديد عليه من خلال لمسه خفة الظل التي قدّمها للشخصية الحالمة الممتدة في الجذور ممثلة في العم صابر أبو الهنا، والمستقبل في ابن الأخ طارق أبو الهنا، إضافة إلى تلك اللمسة في علاقاته سواء مع العائلة التي تراه فاشلًا، أو في علاقات الحب في حياته، أو علاقاته مع الرجل الذي أعطاه دينه.

لعب أحمد بدير دور (صابر أبو الهنا) عم بليغ مدرس الفلسفة، والذي يعاني من ثنائية أفلاطون الحالم صاحب المدينة الفاضلة وأرسطو الواقعي، وقد قدّم بدير دوره ببراعة يعيد لنا أدواره المميزة، كما في مسلسل (الزيني بركات)، وتلك الشخصية التي تتماس مع شخصية أسامة أنور عكاشة نفسه والعديد من شخصياته الدرامية (أبو العلا البشري مثلًا).

قدّمت وفاء عامر شخصية يسرية (زوجة فطين أبو الهنا)، وأجادت الشخصية التي ذكّرتنا بشخصية فضة المعداوي في (الرايا البيضا)، وقدّمتها بشكل مختلف تمامًا، وقدّمت وفاء أيضًا هذا العام شخصية تستحق الإشادة في مسلسل (جزيرة غمام).

يضاف لهؤلاء ممثلون مثل سلوى محمد علي، تميم عبده، مصطفى حشيش، وهنا شيحة، ونور، وقد استطاع محمد سلامة قيادة فريق عمل لمسلسل أعاد روح المسلسلات الاجتماعية الأسرية إلى الشاشة، مع مجموعة من الأنماط الشخصية متنوعة جدًا لها جذورها عند النص الدرامي، وقد رسمت بعناية شديدة.

الجدار الفاصل

تصاعد الصراع بين أبناء “أبو الهنا” نتيجة الصراع على الميراث، وبعد وفاة كبيري العائلة يشتد الصراع بين الأبناء لدرجة المقاطعات، وتقسيم قصر العائلة وبناء سور بين أبنائهم، ويعود بليغ (خالد النبوي) من الخارج بعد وفاة أخويه بعام ليجد العائلة وقد صار كل منهم في ناحية بينهم جدار عازل، تستمر الأحداث ويحاول “بليغ أبو الهنا” لم شمل العائلة، ويكتشف مقتل شقيقيه، وتورط أحد أصدقائه القدامى في القتل، ومعه مدير حسابات الشركة ومحامٍ من الشركة، وتتصاعد مشاكل العائلة، ومع تكشف الأحداث تعود الحياة بين أبناء الأشقاء إلى طبيعتها بعد جهد “بليغ” في كشف المستور عنهم، ويقوم “بليغ أبو الهنا” بهدم الجدار العازل بين أبناء العائلة، لتعود كما كانت أيام زمان، وفي نهاية تقليدية سعيدة أراها لا تتناسب مع الواقع أن كنا نتمناها في البيوت العربية كلها، فما أجمل من حلم هدم الأسوار العازلة كلها بين البيوت والأوطان العربية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان