الطريق إلى أوكرانيا (4) عقيدة بوتين السياسية

يُقصد بالعقيدة السياسية، في أحد تعريفاتها الإجرائية، “مجموعة الأفكار والقيم والمبادئ التي تحكم التوجهات السياسية للقادة السياسيين نحو التفاعلات الداخلية والخارجية، وما تقوم عليه هذه التوجهات من سياسات وأدوات”، وترتبط العقائد السياسية بتطور السياقات والمتغيرات الحاكمة للعملية السياسية من ناحية، والتحولات الشخصية لدى هؤلاء القادة، وطبيعة تكوينهم الفكري والنفسي.
وبالنظر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصل إلى السلطة عام 1999 بالنيابة عن الرئيس يلتسين لمدة عام واحد، ثم فاز في انتخابات 2000، وانتخابات 2004، وعاد للفوز في انتخابات 2012، وانتخابات 2018، وأجرى تعديلات دستورية في يوليو 2020، تسمح له بالترشح لفترتين إضافيتين بعد انتهاء مدته الحالية عام 2020، وبالتالي الاستمرار في الحكم حتى عام 2036، بل ووقّع في العام 2020 على قانون يمنح الحصانة القضائية للرؤساء الروس السابقين مدى الحياة.
وفي إطار هذه التطورات وتلك التعديلات، فرض بوتين هيمنته الكاملة على مقدرات الدولة الروسية كلها، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، واتجه للحفاظ على ما أسماه حدود “الاتحاد الروسي”، ولو بالقوة إذا لزم الأمر، وخلال ولايتيه الأولى والثانية، انفجرت “الثورات الملونة” في عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة (جورجيا، أوكرانيا، قرغيزستان)، وأعقبتها انتخابات أفرزت نخبة سياسية وفكرية جديدة أقرب إلى الفكر الليبرالي الغربي، وهو ما عدّه بوتين “مؤامرة أمريكية” للوصول إلى مناطق النفوذ الروسي، وتعامل معها كونها تشكّل تهديدًا وجوديًا، ليس للدولة الروسية فقط من الناحية الاستراتيجية، ولكن له شخصيًا ولنظامه الذي أسس شرعيته في قدرته على فرض النظام داخليًا، ومحاولة إعادة الاحترام خارجيًا لروسيا، وإعادة دورها قوة عالمية كبرى.
وارتبطت هذه التحولات في الجانب الأكبر منها بـ”عقيدة بوتين” السياسية والعسكرية، حيث أكد “بوتين” أنه لن يسمح لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بالوجود على حدوده، وتهديد موسكو مباشرة، ولذا طلب في “الوثيقة الأمنية” توقيع اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن، والناتو، لوضع نظام ضمانات أمنية بغية خفض التوترات الأمنية في أوربا، وتخلّي الحلف عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا، وعدم انضمامهما للحلف، ووقف نشر أنظمة أسلحة هجومية في الدول المحاذية لروسيا.
وخلال العقود الثلاثة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي حكم منها بوتين روسيا نحو 23 عامًا، صاغ عقيدة سياسية تهدف إلى إنهاء حقبة التراجع الروسي بشكل حاسم، وظهرت أركان هذه العقيدة عبر مسودات المعاهدات التي اقترحتها حكومته في تعاطيها مع دول الجوار الروسي التي كانت سابقًا جزءًا من إمبراطورية قيصرية أو سوفيتية سابقة، ومن هنا جاءت سياساته الهادفة إلى المطالبة بمنطقة نفوذ روسية معترف بها دوليًا تشمل الاتحاد السوفيتي السابق وجزءًا كبيرًا من أوربا الشرقية، وتوقّف منظمة حلف شمال الأطلسي عن أي توسّع إضافي شرقًا، والتخلّي عن مساعدة البلدان، التي هي حاليًا خارج الحلف، وتقييد التدريبات والمناورات في المناطق التي تعدها موسكو حساسة، والامتناع عن نشر الأسلحة النووية الأمريكية في أي مكان في أوربا، وأن يغادر الناتو دول أوربا الشرقية التي انضمت إليه من قبل، وإجبار دول أوربا الشرقية على الإذعان لرغبات روسيا، وإلا ستكون عرضة للعقوبات الروسية، والحروب المباشرة لو تطلب الأمر ذلك.
العقيدة البوتينية بين الجذور التاريخية والأحلام الجيوبوليتيكية
في مركز العقيدة البوتينية، تترسخ فكرة إهانة روسيا عبر التآمر الغربي، حيث يعتقد بوتين أن دول “الأورو-أطلسي” فقدت بوصلتها، لأنها ترفض المبادئ والهويات التقليدية كلها، القومية والثقافية والدينية وحتى الجنسية، وتسير في طريق مباشر نحو ما أسماه “الانحطاط والبدائية”، ووصم كل من دعم الغرب الجمعي ضد روسيا بـ “الحثالة والخونة”، واحتقر من “لا يستطيعون العيش من دون الفطائر والمحار والحرية بين الجنسين”، مؤكدًا أن “أعداء روسيا أبديون، ويعتقدون أن كل شيء هو للبيع، وكل شيء يمكن شراؤه، ويعتقدون والحالة هذه أننا سننهار ونتراجع، ولكنهم لا يعرفون بشكل كاف تاريخنا وشعبنا”.
ومن هنا يتصرَّف بوتين مدفوعًا بعقيدة حاكمة لسياسة بلاده الخارجية يقع في القلب منها إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة. وترتكز هذه العقيدة على أن دولًا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى، وتملك روسيا الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة، ويحق لروسيا تمامًا استخدام القوة إذا ما اعتقدت أن أمنها مُهدَّد، إذ تُعَدُّ مصالح روسيا مشروعة مثلها مثل مصالح الغرب، خاصة أن الولايات المتحدة وأوربا تجاهلتا مصالح بلاده في هذا الصدد.
كما يعتقد بوتين أن روسيا لها كامل الحق في دائرة من الامتيازات الخاصة في الفضاء السوفيتي السابق، وهو ما يعني أن على جيرانها ألَّا ينضموا إلى أي تحالف تعدّه مُعاديًا لها، وخاصة الناتو والاتحاد الأوربي، وقد أوضح بوتين هذا المطلب في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في 17 ديسمبر/كانون الأول 2021، إذ تتطلَّب المعاهدتان التزام أوكرانيا والدول السوفيتية السابقة -وكذلك السويد وفنلندا- بالحياد الدائم، وتجنُّب السعي لنيل عضوية الناتو، وسيكون على الناتو كذلك التراجع إلى وضعه العسكري عام 1997، أي قبل توسُّعِه الأول، عن طريق سحب قواته ومعداته جميعها من وسط أوربا وشرقها، مما يُخفِّض وجود الحلف إلى ما كان عليه قبل تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وكذلك سيكون لروسيا حق النقض في خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من الدول غير العضوة في الناتو، وسيضمن ذلك بقاء الحكومات الموالية لها في تلك البلدان، وأهمها أوكرانيا.
ويعتقد بوتين أن بعض الدول أكثر سيادة من غيرها، فذكر أن هناك قوى عظمى قليلة فقط -روسيا والصين والهند والولايات المتحدة- هي مَن تتمتع بالسيادة التامة، وتختار بحرية أي تحالفات ستنضم إليها، أما الدول الأصغر مثل أوكرانيا وجورجيا فلا تتمتع بالسيادة الكاملة، ولذا عليها احترام قيود روسيا الصارمة، تمامًا مثلما تحترم دول وسط أمريكا وجنوبها جارتهم الأكبر في الشمال، لذا تسعى روسيا إلى عقد شراكات تبادلية وأداتية مفيدة لها ولشركائها معًا، مثل شراكتها الصين، بحيث لا تحد من حرية تصرُّف روسيا أو تصدر حكمًا على شؤونها السياسية الداخلية.
العقيدة البوتينية وحدود العالم الروسي وموقع الأوكران فيه
يرى بوتين أن الروس والأوكرانيين كانوا شعبًا واحدًا.. وحدة واحدة، ويقول: “إن هذه التعابير لم تكن وليدة اعتباراتٍ آنية أو مدفوعة بالسياق السياسي الحالي، بل هي تعبّر عما قلته في العديد من المناسبات السابقة، وعن إيماني الراسخ”، ويضيف “إن الجدار الذي نشأ في السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، والذي يفصل بينهما، كان في الأساس فضاءً روحيًا وتاريخيًا واحدًا، وهو في رأيي محنة ومأساة كبيرة مشتركة، وهي قبل كل شيء نتيجة أخطائنا التي ارتكبناها في فترات زمنية مختلفة؛ ولكنها أيضًا نتيجة جهود متعمدة بذلتها القوى التي لطالما سعت إلى تقويض وحدتنا، وقد استعملت تلك القوى سياسة “فرق تسُد” المعروفة منذ القدم. لا شيء جديد في هذا، ومن هنا جاءت محاولات اللعب على القضية الوطنية، وزرع بذور الفتنة بين الناس، والهدف النهائي هو تقسيم الشعب الواحد، وتحريض أجزاء هذا الشعب بعضها على بعض.
ويعتقد بوتين أن “الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين هم جميعًا من سلالة روسيا القديمة التي كانت أكبر دولة في أوربا، وكانت القبائل السلافية وغيرها في هذه المنطقة الشاسعة ترتبط مع بعضها بلغة واحدة، وبروابط اقتصادية وبحكم أمراء سلالة روريك، وبعد معمودية روسيا القديمة بالإيمان الأرثوذكسي، ويقول نصًا “لا يزال الخيار الروحي الذي اتخذه القديس فلاديمير هو ما يحدد إلى حد كبير ارتباطنا ووحدتنا اليوم”، ويضيف “إن الناس في كل من روسيا الشرقية والغربية كانوا يتحدثون اللغة ذاتها، وكان إيمانهم أرثوذكسيًا، وبقيت سلطة الكنيسة الموحدة قائمة حتى أواسط القرن الخامس عشر، وفي مرحلة جديدة من التطور التاريخي، وكان يمكن أن تكون كل من روسيا الليتوانية وروسيا موسكو نقاط جذب وتوحيد لأراضي روسيا القديمة، وتصادف أن صارت موسكو مركزًا لإعادة الوحدة، واستمرارًا لتقاليد الدولة الروسية القديمة؛ حيث تخلص الأمراء الروس من نير الأجانب، وبدأوا بتوحيد الأراضي الروسية”.
ويرى بوتين أنه على مدى الحرب الطويلة بين الدولة الروسية والكومنولث البولندي الليتواني، حاولت بعض الإمارات الانفصال عن موسكو، أو السعي للحصول على دعم السويد أو بولندا أو تركيا، ولكن بالنسبة إلى الشعب فقد كانت تلك حرب تحرير، وانتهت بمعاهدة السلام الدائم في عام 1686، وضمت الدولة الروسية مدينة كييف والأراضي الواقعة على الضفة اليسرى لنهر دينيبر، وتم لم شمل سكان هذه الأقاليم مع بقية الشعب الروسي الأرثوذكسي. موضحًا “كان يشار إلى هذه الأقاليم بكلمة روسيا الصغرى، وكانت كلمة أوكراني تُستخدم للإشارة إلى حرس الحدود الذين يقومون بحماية الحدود الخارجية للبلاد”.
ويعتقد بوتين أن أوكرانيا الحديثة هي نتاج خالص للحقبة السوفييتية، ويقول نصًا “نحن نعلم ونتذكر جيدًا أنها قد تشكلت -بمعظمها- على أراضي روسيا التاريخية، وللتأكد من ذلك يكفي أن ينظر المرء إلى حدود الأراضي التي توحدت مع الدولة الروسية في القرن السابع عشر وأراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية عندما انفصلت عن الاتحاد الأوربي، وأنه داخل الاتحاد السوفييتي لم يكن ينظر للحدود بين الجمهوريات على أنها حدود دولية، بل كانت حدودًا اسمية داخل دولة واحدة، وكانت مركزية إلى حد كبير، وهذا الأمر أيضًا كان يضمنه دور الحزب الشيوعي، ولكن في عام 1991 وجدت هذه الأراضي كلها، والناس الذين يعيشون عليها، أنفسهم خارج البلاد بين ليلة وضحاها، وقد انتزعوا حقًا هذه المرة من وطنهم التاريخي”.
كذلك يعتقد بوتين أن البلاشفة تعاملوا مع الشعب الروسي على أنه مادة لا تنضب لتجاربهم الاجتماعية؛ فهم كانوا يحلمون بثورة عالمية ستطيح بالدول الوطنية، ويقول “لذلك كانوا في غاية السخاء عند رسم الحدود، وتقديم العطايا الإقليمية، لكن لم يعد الآن مهمًا الحديث عن نوايا القادة البلاشفة عندما كانوا يقطّعون البلاد إربًا، لأنه يمكن أن نختلف حول التفاصيل والخلفيات والمنطق وراء بعض القرارات؛ ولكن الحقيقة تبقى في غاية الوضوح، فلقد تعرضت روسيا إلى السلب حقًا”.
البوتينية والطموحات المستقبلية
في ظل هذه الأركان والمرتكزات التي تقوم عليها العقيدة البوتينية، والتي شكلت أحد أهم محددات استراتيجيته تجاه دول شرق أوربا عامة، وأوكرانيا خاصة طرح بوتين على الأوكران سؤالين، وقدّم الإجابة بنفسه عنهما، أولهما: أنت تريد إقامة دولتك الخاصة؟ “أهلًا وسهلًا”، ولكن ما الشروط؟ وإجابته هنا كانت “إن الجمهوريات المؤسسة للاتحاد بعد أن شجبت معاهدة الاتحاد لعام 1922، يجب أن ترجع إلى حدودها التي كانت قائمة قبل انضمامها إلى الاتحاد السوفييتي، وكل الأراضي المكتسبة تكون خاضعة للنقاش والمفاوضات بالنظر إلى انتفاء الأرضية التي اكتسبت من خلالها، وبعبارة أخرى، عندما تغادر يمكنك أن تأخذ ما أحضرته معك، وهذا منطق يصعب دحضه، وسأقول فقط إن البلاشفة قد شرعوا في إعادة تشكيل الحدود حتى قبل قيام الاتحاد السوفييتي، وتلاعبوا بالأراضي حسب أهوائهم متجاهلين إرادة الناس”.
وكان السؤال الثاني: إن كييف ليست بحاجة إلى دونباس، لماذا؟ يجيب بوتين: “أن سكان هذه المناطق لن يقبلوا أبدًا الواقع الذي حاولوا وما زالوا يحاولون فرضه بالقوة والحصار والتهديد، وأن مخرجات مينسك ـ1 ومينسك ـ2 التي أعطت فرصة حقيقية لاستعادة وحدة أراضي أوكرانيا بشكل سلمي من خلال التوصل إلى اتفاق مباشر مع جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوهانسك الشعبية بوساطة روسية وألمانية وفرنسية، تتناقض مع منطق المشروع المعادي لروسيا الذي لا يمكن المحافظة عليه إلا من خلال الاستمرار في زرع صورة العدو الخارجي والداخلي، وتحت حماية القوى الغربية وسيطرتها“.
وبعد تقديمه لهذه الإجابات يقول بوتين نصًا “أنا واثق من أن السيادة الحقيقية لأوكرانيا لا تتحقق إلا بالشراكة مع روسيا، فعلاقاتنا الروحية والإنسانية والحضارية تشكلت عبر القرون، وجذورها تنبثق من المصدر نفسه، وقد توطدت من خلال التجارب والإنجازات والانتصارات المشتركة، وانتقلت أواصر القرابة بيننا من جيل إلى آخر، وهي موجودة في قلوب الناس وعقولهم في روسيا الحديثة وأوكرانيا، وفي روابط الدم التي تجمع ملايين العائلات، معًا كنا دائمًا، وسنكون أكثر قوة ونجاحًا.. فنحن شعب واحد”.
ومع تلك المقولات وغيرها، والتي تجد تطبيقها في العديد من الممارسات السياسية والعسكرية التي تبنّاها بوتين تجاه الجمهوريات السوفيتية السابقة، وتجاه دول أوربا الشرقية منذ 1999 وحتى اليوم، يمكن القول إن عقيدة بوتين تنطلق من محورية الصراع الوجودي في مواجهة الغرب ومنظومته، وأن التحالفات والاتفاقيات التي تم توقيعها من خلال تلك السنوات ما هي إلا أدوات للاحتواء والتسكين من جانب بوتين، حتى يستكمل ما يراه أركان قوته القادرة على ردع كل من تخول له نفسه الاعتداء أو التفكير في الاعتداء على إمبراطوريته القيصرية، وكانت تلك العقيدة أهم محركات عدوانه على جورجيا 2008، وأوكرانيا 2014 و2022.