الدبلوماسية العلمية: كيف تستخدم الدول العلماء والباحثين لبناء قوتها الناعمة؟

فرضت تحديات القرن الـ21 على الدول أن تعيد بناء نظمها الدبلوماسية، وتطور أساليب جديدة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية وبناء قوتها الناعمة.
وكانت الدبلوماسية العلمية من أهم المجالات التي طورها العلماء، وشارك الباحثون في علوم السياسة والإعلام والاتصال في تشكيل أسسها النظرية.
في مواجهة الأمراض المعدية!
وكان انتشار مرض كورونا من أهم التحديات التي واجهت الدول، وفرضت عليها أن تتبادل المعلومات حول هذا المرض، وتتعاون على تطوير اللقاحات، ولذلك ظهر مفهوم جديد هو “الحوكمة العالمية في مجال الأدوية”، والتعاون في الحملات الإعلامية العالمية لتوعية الجمهور للوقاية من المرض.
كما أدى ذلك إلى زيادة أهمية الدور الذي تقوم به منظمات عالمية مثل منظمة الصحة العالمية في تطوير إمكانيات التعاون على مستوى عالمي في تطوير البيئة السياسية والاجتماعية لمواجهة الأمراض المعدية بشكل عام.
لذلك ظهرت الدعوة في دول الاتحاد الأوربي للتنسيق بين الدبلوماسية والبحث العلمي، واستخدام العلوم في العمل الدبلوماسي، واستخدام الدبلوماسية في العلوم.. فماذا يعني ذلك؟
لكن الدبلوماسية العلمية لا تتوقف عند حدود مواجهة الأوبئة، والتعاون في البحث عن وسائل لحماية الصحة العامة؛ فهي تشمل نقل المعرفة، والتعاون في تطوير البحث العلمي، وزيادة قدرات المؤسسات العلمية على الابتكار.
الدبلوماسية العلمية في الاتحاد الأوربي
لذلك طور الاتحاد الأوربي سياسته في مجال الدبلوماسية العلمية، وقام بحث دوله على التعاون العلمي، وتبادل المعرفة، وتطوير قوانين الدول الأوربية لفتح المجال لهذا التعاون في مجال البحث العلمي.
ويقوم الاتحاد الأوربي بالتنسيق بين دوله، ودعم الأنشطة التي تستهدف التعاون العلمي في المجالات المختلفة، وعقد المعاهدات التي تشكل أساسا لتبادل المعرفة بين دوله.
كما يقوم الاتحاد الأوربي بالكثير من أنشطة الدبلوماسية العلمية من بينها توفير فرص التفاوض بين دول أوربا لإزالة القيود عن التعاون في مجالات البحث العلمي، والتنسيق بين الوزارات والمؤسسات العلمية مثل وزارات التعليم والاقتصاد والتنمية والصحة.
كما ساهم الاتحاد في تطوير قدرات دوله على التخطيط الاستراتيجي لتطوير البحث العلمي، وزيادة إمكانيات التعاون لتحقيق هذا الهدف الذي تزايدت أهميته في السياسة الخارجية لدول الاتحاد.
الدبلوماسية العلمية مع أفريقيا!
تعتبر ألمانيا من أهم الدول التي خططت لتطوير استخدام الدبلوماسية العلمية في تحقيق أهداف سياستها الخارجية خاصة مع الدول الأفريقية.
ففي عام 2014 طورت وزارة التعليم الألمانية سياستها لتحقيق التعاون مع الجامعات الأفريقية، وتقديم برامج تدريبية للباحثين الأفارقة.
واستمرت هذه الوزارة في تطوير استراتيجيتها حيث شهد عام 2016 قيامها بالكثير من الأنشطة على مستوى ثنائي مع الدول، وعلى مستوى مجموعات من الدول تستهدف زيادة التعاون العلمي، وشاركت في هذه الأنشطة الكثير من الوزارات الألمانية، وقامت وزارة الشؤون الخارجية بدور التنسيق بين هذه الوزارات.
كما قامت سفارات الدول الأوربية بتطوير وظيفة الملحق العلمي، والمستشارين الاستراتيجيين في مجال الدبلوماسية العلمية، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء لتقديم النصائح، وفتح مجالات جديدة لتوسيع نطاق التعاون العلمي.
ويفتح ذلك مجالا علميا وتعليميا جديدا لتأهيل كوادر للعمل مستشارين في مجال الدبلوماسية العلمية، وهي وظيفة مهمة تحتاج إليها الحكومات والسفارات، لذلك يجب أن تقوم الجامعات بدورها في تأهيل هذه الكوادر، ومساعدة الحكومات على تطوير سياساتها في مجال البحث العلمي.
الدبلوماسية العلمية البريطانية
قامت المملكة المتحدة بتعيين مستشار علمي لمجلس الوزراء لتقديم النصائح للحكومة في مجال السياسات العلمية، والتعاون مع الدول في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا.
ومن أهم الأعمال التي قام بها هذا المستشار التنسيق بين الملحقين العلميين في السفارات البريطانية بهدف تطوير الجانب العلمي في العمل الدبلوماسي.
لكن الجانب الأهم في الاستراتيجية البريطانية للدبلوماسية العلمية هو فتح قنوات الاتصال بين العلماء والباحثين في المجالات العلمية المختلفة. ويشكل ذلك استجابة للتحديات التي فرضها القرن الـ21.
هذا يعني أن الجانب العلمي في الدبلوماسية تزايدت أهميته، وأصبح يشكل عنصرا أساسيا في استراتيجيات الدول لبناء علاقات طويلة المدى مع الشعوب، وزيادة قوتها الناعمة. كما يعني أن العلماء والباحثين يمكن أن يقوموا بدور مهم في تحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول.
جمع البيانات وتبادلها
من أهم مجالات الدبلوماسية العلمية جمع البيانات وتبادلها بين الدول، وضرورة تحقيق التعاون في هذا المجال الذي برزت أهميته خلال جائحة كورونا، حيث يمكن أن يساهم في زيادة قدرات الدول على تطوير سياستها لحماية مواطنيها من الأمراض الوبائية.
لذلك طورت الدول الأوربية مراكز جمع البيانات عن هذه الأوبئة، وقامت الجامعات بدور مهم في هذا المجال.
كما قامت الدول بإدارة مناقشة حول ملكيتها لهذه البيانات التي حصلت عليها وضرورة تبادلها مع الدول الأخرى بهدف تحقيق الحماية لشعوبها. فما حدود الملكية الفكرية لتلك البيانات؟ وكيف تطور الدول اتفاقيات بينها لتبادل البيانات العلمية؟
هذه المناقشة يمكن أن تفتح مجالا جديدا لتطوير الدبلوماسية العلمية، ودبلوماسية البيانات، وكيف يمكن أن تساهم هذه الدبلوماسية في تحقيق التنمية ومحاربة الفقر والمرض، واستثمار ثروات الدول.
لذلك فإنه من أهم التحديات التي تواجه دول العالم: كيف يمكن التوصل إلى معايير وأحكام لتبادل البيانات؟ وقد ظهرت هذه الفكرة في بيان لمنظمة الصحة العالمية.
الشفافية أساس الدبلوماسية العلمية
لكن هل يمكن أن تتوصل الدول إلى مبادئ تحكم عملية الكشف عن الحقائق العلمية، والالتزام بالشفافية فيما يختص بالمعلومات العلمية حول الأمراض خاصة تلك المتعلقة بالأوبئة مثل كورونا. فمن المؤكد أن هناك دولا تقوم بإخفاء الكثير من المعلومات عن العلاقة بين تطوير وسائل الحرب البيولوجية وانتشار الأوبئة.
إن الشفافية هي التي يمكن أن تشكل أساسا للثقة بين الدول وزيادة إمكانيات التعاون في المجالات العلمية، وتبادل البيانات والمعلومات.
ومن الواضح أن إخفاء المعلومات والتعتيم على أسباب انتشار الأوبئة فتحَا المجال لزيادة التوتر والشكوك بين الدول.
لذلك يمكن أن يكون الالتزام بالشفافية أهم الجوانب التي يمكن أن تتفق دول العالم عليها خاصة عند انتشار الأوبئة التي تهدد حياة البشرية.
زيادة ميزانيات البحث العلمي
ولقد قام الكثير من الدول بزيادة الميزانيات المخصصة للدبلوماسية العلمية، وتحقيق التعاون العلمي مع الدول الأخرى، وفتح المجال للاتصال بين العلماء والباحثين في أنشطة مثل المؤتمرات العلمية وإصدار المجلات العلمية.
وتعتبر ألمانيا من أهم الدول التي قامت بتخصيص ميزانيات للتعاون مع الدول في مجال البحث العلمي. لكن معظم تلك الميزانيات ذهب إلى وزارات الصحة بهدف حماية الصحة العامة، والبحث عن وسائل لمواجهة الأوبئة، وارتبط ذلك بإعلان وزارة الصحة الألمانية برنامجها العالمي لحماية الصحة العامة.
وقد أدى ذلك إلى مطالبة الكثير من الباحثين ومستشاري الدبلوماسية العلمية بالاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتخصيص جزء من ميزانيات الدول للتعاون في هذه المجالات التي تساهم بشكل كبير في بناء الحضارة الإنسانية، وتحقيق التفاهم المشترك بين الشعوب.
الدبلوماسية العلمية والتأثير في الشعوب
يرتبط ذلك برؤية مهمة تقوم على أن الدبلوماسية العلمية يمكن أن تستخدم في التأثير في الشعوب، حيث يقوم العلماء والباحثون بدور مهم في بناء الصورة الذهنية للدولة، ولذلك قامت الكثير من وزارات الخارجية بتطوير قدراتها في استخدام العلماء والباحثين لتحقيق أهداف السياسة الخارجية.
في إطار ذلك قامت وزارات الخارجية بالتنسيق مع الجامعات ومراكز البحوث لاستخدامها في بناء القوة الناعمة، وأدى ذلك إلى زيادة دور الدبلوماسية العلمية في تحقيق الحضور العالمي للدولة، وبناء صورتها على أساس أنها تقدم إجازات علمية وحضارية.
التميز العلمي والدبلوماسية
من أهم المفاهيم التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية استخدام ألمانيا للدبلوماسية في نشر صورة عالمية لها تقوم على “التميز العلمي”، وأصبح ذلك المفهوم يشكل أساسا لصورة إيجابية يمكن أن تجذب الشعوب، وتثير إعجابها بالدولة.
كما ظهرت مفاهيم أخرى ترتبط بالدبلوماسية العلمية مثل “الرواية العلمية للدولة”، وهذا يعني أن الدولة التي تريد أن تبني قوتها الناعمة يجب أن تستخدم علماءها وباحثيها لتقديم نفسها للعالم على أنها دولة تحقق إنجازات علمية تؤهلها لتحتل مكانة مهمة في العالم، وأنها ساهمت في تطوير الحضارة الإنسانية.
لذلك فإنني أدعو إلى تطوير الدبلوماسية العلمية في الدول العربية والإسلامية، وتحقيق التنسيق بين هذه الدول في مجال التعاون والتبادل العلمي، والاهتمام بدور العلماء والباحثين في بناء القوة الناعمة لهذه الدول.