“المقريزي” مؤرخ الديار المصرية والعصر المملوكي.. تلميذ “ابن خلدون” الذي تفوّق على أستاذه
يُعد تقي الدين المقريزي (1364- 1442م) عُمدة المؤرخين للديار المصرية، وأعظمهم تأريخًا للمصريين وحياتهم على مدار التاريخ الإسلامي، وهو التلميذ النجيب لعبد الرحمن بن خلدون (1332- 1406م) مؤسس علم العمران (الاجتماع).
تتجلى هذه الأوصاف والمعاني في أهم كتبه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” المعروف بـ”الخطط المقريزية”، فالتجوال في صفحات هذه الخطط وسطورها، هو معايشة لجغرافية مصر، وتاريخها، وسكانها، وعاداتهم وتقاليدهم وعمارتهم وغيرها.. كذلك الحيوات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
تعليقاته على أحوال البلاد والعباد “لاذعة”
وفقًا للمؤرخ وأستاذ تاريخ العصور الوسطى الدكتور محمد مصطفى زيادة (1900- 1968م)، فإن “المقريزي كان مؤرخًا موهوبًا، ومفكرًا فذًّا لاذعًا في تعليقاته على أحوال البلاد والعباد في ذلك الزمان.. كما كان على وعي كامل بما طرحه ابن خلدون من أفكار في فلسفة التاريخ، وقد تمكّن المقريزي من تطبيق آراء ابن خلدون على نحوٍ لم يستطع ابن خلدون نفسه أن يفعله”.
عمد المقريزي في خططه إلى النقد وتحليل الأحداث، وتفسير المادة التاريخية، وربطها بالأسباب والعلل، وقراءة نتائجها على المجتمع والدولة، منتقدًا السلوكيات والسياسات الخاطئة، والفساد الذي يؤدي إلى خراب الدولة.
ملوك وسلاطين.. وموروثات وتقاليد وديانات وأوقاف
هذا الكتاب لـ”المقريزي” عن تاريخ مصر الإسلامية، منذ الفتح الإسلامي لمصر (سنة 20 هجرية على يد عمرو بن العاص) وحتى قُبيل وفاته نهاية القرن العاشر الهجري، يتميز بالشمول تاريخًا وجغرافيةً، ونشاطًا سكانيًّا اقتصاديًّا، وحياة اجتماعية وموروثات ثقافية ومكونات حضارية. إذ تناول المقريزي أهمية نهر النيل في حياة المصريين، والمناخ، وجذور النشأة والتكوين للقاهرة، بكل تفاصيلها وتطوراتها، من شوارع وحَوارٍ وأزقة وجسور وخانات (فنادق)، ومساجد وديانات وطوائف وأوقاف وبنايات، وملوك وسلاطين، وأخبار السكان والجبال، والمدن المصرية وأهلها، والحوادث الكبرى التي مرت بمصر.
موسوعة ونشاط إنساني.. وأهداف أخلاقية وتربوية
طبقًا لدراسة للباحث خلدون خليل الحباشنة، بجامعة الزيتونة الأردنية، عن المقريزي ومنهجه، فإن الخطط المقريزية هو “موسوعة جغرافية وتاريخية لا تقتصر على أحداث السنين.. بل سجل لنشاط الإنسان وتفاعله مع المكان والجغرافيا، والتغيرات الزمانية، وله أهداف تربوية وأخلاقية وإظهار للعبرة، تأكيدًا لقيمة التاريخ في اعتبار الناس منه في حاضرهم”.
في هذا السياق، يقول المقريزي في مقدمة خططه: “إنّ علم التاريخ من أسمى العلوم قدرًا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرًا، لما يحويه من المواعظ والاعتبار، وإني ما زلت منذ آتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبار مصر، وأهوى مساءلة الركبان عن سكان ديارها، وجمعت من ذلك فوائد قلّ ما يجمعها كتاب”.
خليط من العبيد.. والمملوك عز الدين أيبك يقفز على العرش
ما بين مولده في القاهرة ووفاته بها (82 عامًا)، عاصر المؤرخ المقريزي، العصر المملوكي، وكان شاهدًا يقظًا عليه، فهو المؤرخ بلا منافس لذلك العصر، الذي خضعت فيه مصر لحكم المماليك، وكانوا خليطًا من “العبيد” الأتراك وقلة غيرهم، اشتراهم نجم الدين أيوب بالأموال، قبل وبعد توليه الحكم لتقوية جيشه بهم، وأسكنهم بجزيرة الروضة النيلية، في عُزلة عمن حولهم، ولذلك يُسمّون “المماليك البحرية” أو لجلبهم من وراء البحار.
مع الوقت تسلل المماليك إلى الوظائف القيادية وقويت شوكتهم في الدولة المصرية، ومع وفاة السلطان نجم الدين أيوب، ثم مقتل وريثه على العرش المعظم توران شاه، وزواج (قائد الجيش) الأمير “عز الدين أيبك” من أرملة نجم الدين (شجر الدُّر)، ويقفز على العرش، عام 1252م.
سقوط المماليك.. والغزو العثماني وإعدام طومان باي على باب زويلة
هكذا صار “الملك المُعز عز الدين أيبك”، تحت راية الخلافة العباسية، ليكون أول سلطان مملوكي لمصر، والمؤسس لدولة “المماليك البحرية”، بينما كان آخر سلاطينهم الملك الصالح زين الدين حاجى عام 1381م، بمشاركة الأمير سيف الدين برقوق (المملوك البرجي أو الشركسي).
تمكّن “برقوق” من اعتلاء العرش وحده عام 1382م، إيذانًا بسقوط دولة المماليك البحرية، ليكون هو السلطان الظاهر برقوق، المؤسس لدولة “المماليك البرجية” أو الشراكسة، الذين كانوا يسكنون أبراج قلعة الجبل، وكان قد تم استقدامهم من شمال أرمينيا (جورجيا حاليًا)، في عهد السلطان قلاوون (حكم من 1279- 1290م).
استمرت المماليك البرجية في حكم مصر منذ ذلك التاريخ وحتى سقوط دولتهم، مع الغزو العثماني لمصر عام 1517م، على يد السلطان سليم الأول (حكم الدولة العثمانية من 1512 حتى وفاته 1520م) الذي أعدم آخر سلاطين المماليك الشراكسة طومان باي شنقًا على باب زويلة.
حارة برجوان.. و”السلوك لمعرفة دول الملوك”
عودة إلى مؤرخنا.. يرجع لقبه (المقريزي) إلى عائلته التي استوطنت حارة المقارزة بمدينة بعلبك اللبنانية، قبل انتقال والده إلى مصر.. حيث وُلِد المؤرخ تقي الدين المقريزي عام 1364م في حارة برجوان بحي الجمالية القاهري الشهير، ومنذ نعومة أظفاره، بدت عليه النجابة والشغف بالعلم والتحصيل مبكرًا.
أجاد المقريزي الخطابة وتولاها والإمامة بالعديد من المساجد القاهرية، وترقى في وظائف ديوانية عديدة، إلى أن عيّنه السلطان برقوق، محتسبًا للقاهرة والوجه البحري عام 1398م، وهي من المناصب العليا في الدولة، فاكتسب مزيدًا من الخبرات والمعارف.
على مشارف الخمسين من عمره، ترك المقريزي الوظيفة، متفرغًا للكتابة بقية حياته وحتى وفاته عام 1442م، وأنتج 37 مؤلفًا بينها مراجع موسوعية، ومن أهمها إلى جانب الخطط المقريزية كتابه الشهير “السلوك لمعرفة دول الملوك”، وسجّل فيه معلومات وأخبار وسِيَر الملوك الكرد في العصر الأيوبي، والسلاطين من المماليك التركية والشراكسة، والحوادث المهمّة في الفترة من عام 1171 وحتى عام 1442م.
كان مؤرخًا عظيمًا محبًّا لمصر.