“الغزو الصامت” وعودة ملف اللاجئين السوريين إلى صدارة المشهد التركي
عاد ملف اللاجئين السوريين ليحتل موقع الصدارة على الصعيدين السياسي والإعلامي في تركيا عقب نشر فيلم تسجيلي قصير على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “الغزو الصامت”، أثار ضجة كبيرة داخل المجتمع، لينقسم الشارع التركي بين مؤيد لما جاء فيه، ومعارض لما يحمله من لهجة تحريضية تستهدف مدنيين فروا إلى تركيا للاحتماء بها من أهوال الحرب في بلادهم.
الفيلم الذي وصفته وسائل إعلام عدة بأنه عنصري، يتناول السوريين القادمين إلى تركيا نافيا عنهم كونهم لاجئين، واصفا وجودهم هناك بأنه غزو هادئ بهدف السيطرة على الدولة والسعي لتغيير هويتها وموروثاتها الثقافية والاجتماعية، معتبرا هذا الأمر تهديدا حقيقيا لديموغرافية المجتمع التركي، وإيذانا بانتهاء عصر الجمهورية الأتاتوركية في ظل ما سماه “سياسة الهندسة الاجتماعية الإسلامية”.
مديرية الأمن أعلنت في بيان لها أن الفيلم يحوي الكثير من المعلومات المضللة عن اللاجئين السوريين، ويحرض على وجودهم في تركيا، وعقب القبض على الأشخاص الذين قاموا بإعداد الفيلم خرج أوميت أوزداغ رئيس حزب النصر المعارض على الملأ ليعلن بكل فخر أنه هو الذي يقف وراء هذا العمل، وأنه شخصيا وافق على السيناريو الخاص به وقام بتمويله من ماله الخاص، متهما كل من يؤيد الوجود السوري في بلاده بالخيانة.
توظيف ملف اللاجئين السوريين من الأمور البديهية التي جرت عليها عادة أحزاب المعارضة كلما اقترب موعد استحقاق انتخابي، للنيل من الحكومة وإثارة المواطنين ضدها، وتوجيه انتقادات حادة لسياساتها المتبعة مع اللاجئين، وحجم المساعدات الاقتصادية والخدمات الصحية التي تقدمها لهم، حيث يتم صياغة الأمر وكأن هذه المساعدات تدفع من خزينة الدولة، ومن جيب دافعي الضرائب الأتراك، وأن السوريين يسطون على حقوق أبناء البلد، مع أن حقيقة الأمر هي أن الاتحاد الأوربي يتكفل بدفع تكلفة هذه المساعدات، إذ يساهم سنويا بحوالي خمسة مليارات يورو لتركيا مقابل منع تدفق اللاجئين إلى أراضيه.
السوريون وأزمة تركيا الاقتصادية
ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية -التي تجتاح العالم أجمع- وما يلاقيه الأتراك من صعوبة في تأمين حاجاتهم الأساسية بسبب انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار، وزيادة حجم التضخم، وارتفاع الأسعار الذي فاق كافة التوقعات- وجه الجميع: سياسيون ومواطنون أصابع الاتهام إلى السوريين، متهمين إياهم بأنهم السبب في جميع هذه المشاكل التي يلاقيها الأتراك، وأنه لولا وجودهم ما عانى الأتراك كل هذه المعاناة.
وهو الأمر الذي أفضى إلى العديد من الحوادث والاعتداءات، إذ تعرض العديد من السوريين للهجوم من المواطنين الأتراك، وتخشى الحكومة من تصاعد حدة هذه الحوادث مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي والتشريعي منتصف العام المقبل، خصوصا أن هناك شريحة لا يستهان بها داخل حزب العدالة والتنمية نفسه وحزب الحركة القومية الشريك في الحكم، أصبحت ترى في اللاجئين السوريين عبئًا ثقيلا وحملا يجب التخلص منه بأي صورة من الصور قبل الدخول فعليا في المعركة الانتخابية، لقطع الطريق على أحزاب المعارضة، وتفنيد حججها، وعرقلة هجومها الذي يعتمد كليا على هذا الملف.
سياسة الباب المفتوح وما جلبته على اللاجئين
ومن هذا المنطلق يمكن فهم أسباب التصريح الذي أدلى به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية الذي طالب بضرورة عدم السماح بعودة السوريين الذين يعبرون الحدود التركية إلى داخل سوريا لقضاء عيد الفطر مع أسرهم هناك، وهو ما استجابت له وزارة الداخلية التي أصدرت قرارا فوريا عقب ذلك بساعات يمنع سفر السوريين إلى بلادهم خلال إجازة عيد الفطر، رغم أن هذه العادة لم تنقطع على مدى الأعوام الأحد عشر الماضية.
ومع زيادة حجم الاتهامات الموجهة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، بشأن سياسة الباب المفتوح المتبعة منذ بداية الأزمة السورية، التي جعلت الحزب هدفا سهلا لسهام المعارضة، سعت الحكومة لاتخاذ عدد من الإجراءات التنظيمية في ملف اللاجئين السوريين على وجه التحديد، وذلك في محاولة لنفي ادعاءات المعارضة بمحاباتها للسوريين على حساب الأتراك. وفي هذا السياق بدأت توزيع السوريين داخل الأراضي التركية، ومنعت تكدسهم في مناطق بعينها، إرضاءً للمواطنين الذين أصبحوا يرفضون الوجود السوري في المجمل، وللحد من حجم كراهية الأجانب التي استشرت بقوة في الآونة الأخيرة.
وفي هذا الإطار صدرت تحذيرات بإمكانية إلغاء بطاقات الحماية المؤقتة الممنوحة للسوريين إذا لم يتم إثبات محل إقامتهم الفعلية لدى السلطات الرسمية، أو إذا لم يلتزموا بالإقامة في المحافظات التي تم استخراج بطاقاتهم منها، إلى جانب إمكانية ترحيلهم في حال تورطهم في مشاكل أو حوادث مع المواطنين الأتراك أيًّا كان حجمها أو سببها.
وهي السياسة التي أصبحت تسبب حالة من القلق لعشرات الآلاف من السوريين الذين لم يوفقوا أوضاعهم القانونية، ولأولئك الذين تضطرهم ظروفهم للوجود في محافظات غير التي منحت لهم فيها هوية اللجوء، بحثًا عن عمل لتأمين احتياجاتهم المالية، كما تزايدت حملات الاعتقال والترحيل بين السوريين الذين لا يحملون أوراق إقامة رسمية، بعد أن كانت السلطات تغض الطرف عنهم خلال السنوات الماضية.
هل يمكن إذابة 4 ملايين لاجئ خلال فترة وجيزة
ومع أن جميع هذه القرارات تستهدف تحجيم الوجود السوري على الأراضي التركية، ودمجهم وإذابتهم داخل المجتمع التركي إرضاءً للمواطنين ولصيانة خصوصية البلد الثقافية والاجتماعية، فإن محاولة السيطرة على أكثر من 3.77 ملايين نسمة وفق البيانات الرسمية للحكومة التركية، وما يزيد على 4,5 ملايين نسمة وفق تقديرات المعارضة يبدو أمرا صعب المنال إن لم يكن مستحيلا، خصوصا أنه على مدى الأعوام الأحد عشر الماضية تمتع السوريون بحرية مطلقة في التنقل والعمل.
الأمر الذي يعني أن قرارات الحكومة ربما تؤدي إلى ضبط الأمور بعض الشيء، وتهدئة الأوضاع الداخلية، ومنع تصاعد حدة الكراهية التي يتعامل بها الأتراك مع كل ما يمت إلى السوريين بصلة، إلا أن ذلك لن يمنع أحزاب المعارضة من الاستمرار في اتهام الحكومة بالتسبب في هذه الأزمة حينما وافقت منذ البداية على استقبال هذا العدد الضخم من اللاجئين، وفتحت لهم أبواب البلاد على مصراعيها، ومنحتهم هويات لجوء، وقامت بتجنيس عدد منهم، بل إن بعض تلك الأحزاب ذهب إلى اتهام الحكومة بالتسبب عمدًا في زعزعة الأمن والاستقرار داخل سوريا، والوقوف وراء الحرب التي تعاني منها حتى اليوم تحقيقًا لمكاسب سياسة.
اسألوا شركاء اليوم عن سياسات الأمس
وقام رئيس حزب الشعب الجمهوري بتعليق لافتة ضخمة على المقر الرئيسي للحزب تحوي عددا من الأسئلة بخصوص هذا الأمر، قائلا إنه ينتظر الحصول على أجوبة لها من جانب الحزب الحاكم.
الغريب في الأمر أن المعارضة التركية التي تضم ستة أحزاب رئيسية لم تلتفت إلى البعد الإنساني في قرارات الحكومة التركية الخاصة باللاجئين عموما، كما أنها وهي تكيل الاتهامات لحزب العدالة والتنمية في هذا الملف على وجه التحديد تتجاهل أن بين صفوفها اليوم أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل، وعلى باباجان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم، مهندسَي سياسة التعامل مع ملف الأزمة السورية اللذين لعبا أدوارا هامة ومؤثرة في السياسة التركية تجاه سوريا حينما كانا من أبرز قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهما أجدر من يجيب عن تساؤلات شركائهما في المعارضة حول هذه السياسة، مثلهما في ذلك مثل قيادات الحزب الحالية.