تعدد الزوجات بين الوفاء والخيانة

جاء الإسلام ووجد العادات والأعراف، فأقر ما يتفق معه منها وأنكر ما يتعارض معه، واعتبر العلماء العرف من عوامل تغير الفتوى، فيما لا يتصل بثوابت أو قطعيات. وينتشر الأخذ بالعرف والعادة في المجتمعات التي لم تنل قسطا من الترقي أو العلم، وتقدمه أحيانا على الشرع. لكن من الملاحظ في حياتنا الآن أننا نجد عبارات تطلق على أحكام شرعها الإسلام، تخرج بها عما أحله الله إلى وصف لا يليق بالحكم الشرعي ولا يتوافق معه، وتذكر في ذلك قصص تضفي نوعا من الحكم على أفعال لا تدخل في باب الحلال والحرام، بقدر ما تدخل في باب قدرات الأفراد، والتشريع الإسلامي لا يأتي على حسب سلوك فردي لا يتكرر في الحياة إلا قليلا.

أوصاف مذمومة لأحكام شرعية

والأمثلة التي أذكرها اليوم كلها تتعلق بالزواج وأحكامه حسب رؤية الشرع والعرف والثقافة السائدة المبنية على تصورات ليست منطلقة من الشرع، فهناك أوصاف وأحكام عرفية يطلقها الناس على حالات في الزواج، وهي في كثير منها تعارض حكم الشرع في تلك الحالات، وذلك بناء على ثقافات وافدة على بلادنا، أو تقاليد قديمة لا تمت للدين بصلة، أو ثقافة إعلامية أو فنية غرست في الناس هذا المعنى الخاطئ.

وأكثر القضايا الشرعية التي طالتها هذه العادات في باب الزواج تتعلق بالزواج الثاني، أو التعدد بوجه عام، وهو قضية شرعية تلخص في عبارات مختصرة، بينها الفقهاء في كلمات محددة عند حديثهم عن حكم الزواج بوجه عام، فقالوا: الزواج تعتريه الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة، فقد يكون واجبا، أو محرما، أو مندوبا، أو مكروها، أو مباحا، حسب حالة من يتزوج، ومن تتزوج، بتفاصيل مذكورة في التشريع، ونفس الأحكام تقال عن الزواج الأول والثاني والثالث والرابع. وسيظل هذا الحكم بهذه الأوصاف الشرعية، وما يختلف في هذه الحالات هو حالة المتزوج، وتحت أي درجة من درجات التشريع المذكورة يندرج ما فعله.

لكن ما يسود حاليا في ثقافاتنا المغلوطة، تصورات أخرى، فتجد قصة مذكورة في مجموعات على الواتس أب، أو وسائل التواصل الاجتماعي، بأن رجلا ماتت امرأته فرفض الزواج بعد وفاتها مطلقا، فتتناقلها مجموعات النساء، من باب: انظروا إلى الوفاء، وكأنه لو لم يفعل ذلك لكان خائنا. وربما تكون هذه أخف حالات العادات والثقافات التي تتعلق بالزواج، فهناك مصائب يطلقها الناس على أحكام شرعية في الزواج.

تضييق العادات ما وسعه الشرع

فالزوجة التي يموت زوجها، في تصورات الكثيرين في بلادنا (مصر)، وبخاصة الريف والصعيد، عليها أن تكمل حياتها أرملة، تعتكف على تربية أبنائها، إلى أن تموت فتلحق بزوجها، وإذا كان الزوج شهيدا أو صاحب فضل، فسيزداد الأمر صعوبة وشدة عليها، ولو أن امرأة خافت أن تقع في الحرام فتزوجت رجلا تعف به نفسها، للاكت سمعتها الألسنة، ووصفتها بعدم الوفاء، وسوء الخلق!

ولو أن زوجة سافر زوجها للعمل في الخارج، وطال غيابه، فطالبته بالنزول، أو قبل أن يسافر رفضت سفره لأنها لا تتحمل غيابه، وتحتاج إليه لعفتها، لو أنها طلبت أن تطلق منه، لخرجت أوصاف الناس لها بما يتهمها في تربيتها وأدبها، بأنها امرأة شهوانية، ومصابة بسعار الجنس، أليس يسافر لأجل مصلحتها وأولادها، وننسى هنا أن ما فعلته حق مشروع، ولو طلبت منه أن يبقى معها أو يطلقها، لنهشت سمعتها الألسنة بالسوء، بينما فعلت ما أباح لها الشرع.

والزوجة التي يسجن زوجها، أو يعتقل، ولا تتحمل ذلك، فتطلب الطلاق من الزوج، ينهشها الناس أيضا، رغم أنه حق مشروع لها، حتى لو كان الزوج محبوسا مظلوما، فهناك فرق بين عدالة قضية زوجها، وعدالة حقها في حفظ نفسها، فالطلاق حق مشروع لها، وليس معنى طلبها والزوج في محنة أن نجمع محنتين معا، محنة السجن على الزوج، ومحنة الفتنة على الزوجة، وهو ما لا يقول به الشرع، لكن العرف والناس لهما رأي آخر عكس الشرع.

والمرأة التي تمرض فيتزوج الزوج بأخرى، أو لظروف أخرى شرعية تعطيه الحق في الزواج، نجد الأوصاف السيئة تطاله، بأنه رجل خائن، وباع امرأته والعشرة، وتصف الزوجة الأخرى بأنها خطافة الرجالة، رغم أنها فعلت ما أحله الله لها، لكنها توصف بالخطف أي: السرقة، فتحول المشروع الذي أحله الله إلى سرقة.

بعض الأعراف تبيح للزوج أن يطلق المرأة التي لا تنجب، ليتزوج بأخرى، أو يتزوج عليها، ولكنها لا تبيح ذلك للزوجة التي لا ينجب زوجها، ولو طلبت الطلاق لأجل أن يرزقها الله أبناء تجد ألسنة الناس تطالها بأنها امرأة ليست وفية، ولم تصن عشرة الرجل، وقد أكرمها وأحسن إليها، والإنجاب حق مشروع للطرفين، ولهما الصبر على ذلك، أو الفراق لطلب الولد من زواج آخر مشروع، وقد يكون لا عيب فيهما، لكن الطب يقول: يستحيل أن ينجب منها، أو تنجب منه، وعند انفصالهما، وزواجهما زواجا آخر ينجبان.

بين الحرام الديني والحرام الاجتماعي

لست غافلا هنا عن أخطاء وألاعيب بعض الحالات التي تتلاعب بالزواج والشرع فيه، فهذا يحدث في حالات تعدد نعم، لكن معظم المشاكل التي نراها في المجتمع بين الأزواج، تسعة وتسعون في المائة منها بين حالات زواج بواحدة، وهذا يعني أن المشاكل موجودة، وليس السبب فيها التعدد أو غيره، فعلينا النظر إلى أسبابها الحقيقية، والمشاكل لا تجعلنا نغير نظرة الشرع للأمر، بل ننظر له النظرة الشرعية الصحيحة، ولا تجرفنا العادات والتقاليد للوقوع في أوصاف لأمور أباحها الشرع، خوفا من هذا أو ذاك، أو خوفا من ضغط الواقع والمجتمع.

البعض يخاف من هذا الضغط، سواء كان شيخا أو ناشطا أو مفكرا أو غير ذلك، بل أحيانا هناك من يقع في الحرام الديني هربا من أن يقع في الحرام الاجتماعي لخوفه من نظرة الناس وكلامهم. وواجب المشايخ أمام هذه المواقف التي ذكرناها ألا ننجرف وراء نظرة الناس، فمثلا في قضية تعدد الزوجات تطلق العرب على كل من زوجات الرجل لفظ “الضرَّة”، ويعللون ذلك بأن كلا منهما تتضرر من الأخرى، بينما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليها لفظ “الأخت”، فكل منهن أخت للأخرى، فقد قال في الحديث: “لا تسأل المرأة ‌طلاق ‌أختها لتكتفئ ما في صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما كتب الله لها”.

علينا الحذر من إطلاق عبارات تقابل حكما شرعيا، فالخيانة والوفاء أخلاق، الأولى مذمومة، والثانية ممدوحة، وهي أوصاف تتعلق أيضا بأحكام شرعية، لا يجوز شرعا أن نطلقها إلا على من يستحقها، وبدليل شرعي، أما أن نصف ما أحله الله للناس بالخيانة، ونصف ترك هذا المباح والحلال ولو على حساب الوقوع في المعصية بأنه وفاء، فهذا لا يجوز شرعا، وما يمكن أن يقوم به فرد لا نحكم به على مجموع الناس، فقدرات الناس مختلفة، وكل ميسر لما خلق له، كما قال صلى الله عليه وسلم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان