خطورة غياب الفهم الحقيقي للواقع في عالم الدعوة والدعاة
لم يختلف الأصوليّون والفقهاء في أن أحد أهم الشّروط التي يجب توافرها في الشّخص الذي يحكم على النّوازل والوقائع والمسائل المستجدّة والأفكار الجديدة والظواهر المنتشرة هو فهم الواقع ومعرفته إدراكه حقّ المعرفة والإدراك، وهو ما أطلقوا عليه “فقه الواقع”
نصّ فخم لابن القيّم في ضرورة فهم الواقع قبل إطلاق الحكم، ومن ذلك ما يقوله ابن القيّم في “إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين”:
“ولا يتمكّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقّ إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهمُ الواقع والفقه فيه، واستنباطُ علمِ حقيقةِ ما وقعَ بالقرائنِ والأمَارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنّوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبّق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله” ثمّ يقول: “ومن تأمّل الشّريعة وقضايا الصّحابة وجدها طافحةً بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على النّاس حقوقهم، ونسبه إلى الشّريعة التي بعث الله بها رسوله”
وإنّ قول ابن القيّم: “فهمُ الواقع والفقه فيه، واستنباطُ علمِ حقيقةِ ما وقعَ بالقرائنِ والأمَارات والعلامات حتى يحيط به علمًا” يدلّ على خطورة الاكتفاء بالنّظر السّطحي للوقائع، بل لا بدّ من البحث في حقيقة ما وقعَ من الحوادث والمسائل وسبر أغوارها من خلال القرائن والعلامات التي يصل المرء من خلالها إلى حقيقة الواقعة لا مجرّد صورتها.
ضرورة فهم الواقع للدعاة والمصلحين أيضًا
وفهم الواقع وإدراكه بعمق ليس حاجةً للفقيه والمفتي فقط لتنزيل الأحكام الشرعيّة على الوقائع، بل هو من أمسّ الحاجات بعمل الدّاعية والمصلح الذي ينخرط في الواقع ترشيدًا وتصويبًا وعلاجًا وتوجيهًا؛ فإن لم يكن الدّاعية أو المصلح على إدراكٍ عميقٍ بالواقع الذي يصبّ فيه خطابَه الدّعويّ فقد يكون تأثيرُه عكسيًّا ويكون الإفساد هو الثّمر النّكِدُ الذي يجنيه من حيث توهّم أنّه يمارسُ الإصلاح.
يتوهّم العديدُ من المشتغلين والمتخصّصين بالعلوم الشرعيّة، وشريحةٌ من الدّعاة والمُصلِحين أنّ معرفتهم بالواقع غدت أسهل في ظلّ العصر الرّقميّ الذي جعل العالم قريةً صغيرةً، وكلّ المعلومات متاحة ووسائل الإعلام تنقل الأخبار والأوضاع لحظةً بلحظة.
بيدَ أنّه يغيبُ عنهم أنّ العالم الواقع المتغيّر بسرعة كبيرةٍ والسّيولة الرّقميّة والنّزوح البشريّ للسّكنى في وسائل التّواصل الاجتماعيّ والتوزّع المتشابك بين العوالم الواقعيّة والافتراضيّة وتدحرُج الأفكار وتفجّر المعلومات؛ جعل معرفة الواقع كما يجب أن يُعرَف مهمّةً صعبةً شاقّة.
خطورة معرفة الدعاة السّطحيّة والمتوهّمة للواقع
إنّ معرفةَ الصّورة الظّاهرة من وقائع معيّنة، أو معرفة بعض السّلوكيّات لتيّار فكريّ معيّن أو مشاهدة جزء من الصّورة لا يعني على الإطلاق معرفةً بالواقع تؤهّل صاحبها إطلاق الأحكام على هذا الواقع وهذه الوقائع.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّ التّصدّي لظاهرة الإلحاد المعاصر عند الشّباب لا سيما ما كان عقب ثورات الرّبيع العربيّ ونتاج الثّورات المضادّة لا يكفي فيه معرفة سطحيّةٌ ببعض الحالات وبعض الشّبهات التي تُطرح حتّى يتصدّر الدّاعية أو المصلح للحديث في القضيّة تنظيرًا ومناقشةً، بل لا بدّ من سبر أغوار الظّاهرة وفهم أسبابها الخلفيّة العميقة، وأنواع هذا الإلحاد ودوافعه ومنهجيّة التّعاطي مع كلّ نوع.
ومن أمثلة ذلك أيضًا الحديث عن “النّسويّة” بناءً على انطباعاتٍ عامّة أو ارتكازًا على معرفة وقائع معيّنة، دون قراءةٍ واعيةٍ متأنيّة عن هذه الحركة من مصادرها ومعرفة موجاتها وتيّاراتِها والفروق بين هذه التيّارات وأهم ما تنادي به من أفكار للقيام بمناقشة هذه الأفكار واتّخاذ موقف منها، فلو سألت بعض المتصدّين للنّسويّة ماذا قرأت من كتب رائدات الحركة النسوية ومنظّراتها؟ وما هي أهمّ الأفكار التي ينادون بها في كتبهم؟ لحدّثك كلامًا عامًّا انطباعيًّا عن سلوك بعض الشّخصيّات أو أفكار بعض المؤسّسات، وهذا يعطي أحكامًا مجتزأة وخطابًا منقوصًا لا يؤدّي آثارَه ولا ينتج ثمارَه بل قد يقود إلى عكس مبتغاه فتكون الثّمرة خطابًا متشنّجًا يصبّ في صالح وخدمة “النّسويّة” ويكون أكبر خادمٍ لها.
ومن الأمثلة على ذلك الحديث في قضايا السّياسة دون النّظر إلى تعقيداتها وتشابكاتها، والنّزوع إلى التفسير السّطحي للقضايا السّياسيّة وإطلاق الأحكام الشرعيّة أو التّوصيفات الدّعويّة عليها بناءً على ذلك.
ضرورة تطوير أدوات الدّعاة في فهم الواقع
إنّ فهم الواقع وإدراكه في مسألةٍ من المسائل أو واقعةٍ من الوقائع أو تيّار فكريّ أو ظاهرة معيّنة يقتضي الاطلاع المباشر على هذه الوقائع والتيّارات والظواهر من خلال المعرفة المباشرة عبر الرّصد والتّحليل والدّخول إلى تلك العوالم من أبوابها ومعرفتها من مصادرها والقراءة المطوّلة للدّراسات الإحصائيّة والتّحليليّة والاستقراء الذّاتي، وإلّا فإنّ الكثير من الأحكام التي يتمّ إطلاقها لن يكون أكثر من تصوّرات انطباعيّة وأفكار رغائبيّة وتنزيلٍ فاشلٍ للنّصوص على وقائع ونوازل ومستجدّات لم يعرفها مطلقو الأحكام كما يجبُ أن تُعرف وتُدرَك.
إنّنا بحاجةٍ إلى تطوير حقيقيّ في أدوات الدّعاة والمُصلحين لفهم الواقع وإدراكه، وهذا ما يفرضه الواقع سريع التغيّر والانفتاح المطلق بين البيئات الواقعيّة من جهة، وبين العوالم الواقعيّة والافتراضيّة من جهةٍ أخرى، وعليهم التّعامل مع فهم الواقع بوصفه ركيزةً رئيسةً لفهم النصّ، وفي ذلك يقول الدّكتور عمر عبيد حسنة: “لا بدّ من فقه الواقع الذي يراد للنّص أن يقوّمه وينزل عليه، وفي هذا لا يكفي حفظ النّصوص، بل لعلّنا نقول: إنّ فقه النّص لا يتوفّر على حقيقتِه إلا بفَهم الواقع”.