ليس بالظلم والقهر تدار الشعوب!
في النظم الديمقراطية والأعراف المعتبرة الدولية؛ الحاكم خادم للشعب يتم اختياره بالانتخاب الحر المباشر، وفي هذه الحالة لا يستطيع الضغط على شعبه، أو استلاب حقوقه وإهدارها، لأنه يعلم أن مصيره الإبعاد في أقرب انتخابات. وفي ذات الوقت القوانين والدساتير تحفظ الحقوق والحريات العامة للشعوب، وتضع الأُطر الدستورية التي يسير عليها الحاكم، وكل مؤسسات الدولة، ولا تستطيع مؤسسة أن تطغى على الأخرى، أو تسلب حقها ودورها.
أما في النظم المستبدة؛ فالحاكم يظن، في غالب الأحيان، أنه مفوض من الله لحكم الشعب، يفعل ما يشاء ويُهيمن على كل مقدرات الدولة، بحجج كثيرة منها: أنه الذي يعرف بواطن الأمور، ولديه من الحكمة ما ليس عند غيره، ومن حقه السيطرة على كل المؤسسات بحجة المحافظة على الأمن القومي، الذي يعني عنده الحفاظ على حكمه، والاستقرار الذي يضمن استمراره في أعلى سلطة للدولة.
الظلم أهم سبب لاندلاع الثورات العربية
هناك أسباب كثيرة أدت إلى اندلاع الثورات العربية، منها السلسلة المتراكمة عبر السنين من الاستبداد والفشل التي مارسته الأنظمة السياسية العربية وخصوصًا الجمهورية، حيث أثبتت فشلها في تحقيق المطالب العادية للشعب مع انتشار الفساد، وغياب مفهوم العدالة والمشاركة، وهذا ما ظهر جليًا في مصر، وليبيا، وتونس، واليمن، وسورية، وارتفاع نسبة الفقر وتدنى مستويات المعيشة، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء نتيجة لممارسات احتكارية من الدولة، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية المترتبة على تدهور تلك الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما أدى قيام الشعوب بالثورة على تلك الأوضاع.
كما أن النظم السياسية في العالم العربي تحولت إلى نظام الأقلية التي تقتصر على الحزب الحاكم، وبها مركزية شديدة كما أنها اعتمدت على الليبرالية المتوحشة خصوصًا ما تمّ من بيع القطاع العام إلى القطاع الخاص دون ضوابط، كما أن تلك النظم فشلت في بناء دولة المساءلة.
الثورة تأتي بعد فشل الإصلاح
وفي غالب الأحيان الثورة لا تأتي إلا بعد فشل حقيقي لمشروع الإصلاح، فالشعوب التي ثارت لم تكن تريد الثورة، بل كانت تريد الإصلاح، ولكن بعدما فشلت المشاريع الإصلاحية والتي تبناها حسني مبارك في مصر، وبشار الأسد في سورية وغيرهما ثارت الشعوب، وهذا النوع من الأنظمة لا يركز على الحقيقة لأنه لا صوت للشعوب للتعبير عن آرائها، فالرئيس لا يسمع ولا يُساءل ولا يناقش، وهذا ما أدى إلى تمادي النظام، وهذا واضح في تزوير الانتخابات الرهيب الذي حدث في العديد من الدول التي وقعت فيها الثورات العربية.
وبطبيعة الحال كان لوسائل التواصل الاجتماعي الدور الكبير في انفتاح الشعوب على العالم، وما يعيش فيه الغرب من رخاء وعدالة ومساواة وتداول للسلطة، فتفجرت هذه الثورات من الأجيال الصاعدة وجرّت الجميع معها، وجاء هذا بعد النمو السياسي، ونمو الوعي بحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.
الشعوب تريد العدالة والعيش الكريم
ومن ثمَّ سعت الشعوب العربية للحصول على العدالة والمساواة والعيش الكريم وانتخاب رئيسها، وبرز في الوعي العربي التجربة التركية فهي نفس ظروفنا، ولكنها تطورت وأصبحت قوة عالمية لها وزنها.
ومع انكسار حاجز الخوف بعد أن حرق بوعزيزي نفسه في تونس، لضيق العيش، اشتعلت الثورات في البلدان العربية، ونزل ملايين المصريين إلى الشوارع من مختلف المحافظات المصرية، وتوالت الأحداث وانتقلت هذه الروح إلى الشعوب الأخرى، لأن الشعوب بطبيعتها تغار وتحب الحرية والعيش الكريم.
وفي المجمل الشعوب العربية أُجبرت على الثورة نتيجة للظلم الواقع عليها، وانتشار الفساد، وانسداد المجال العام، وكبت الحريات، وتزوير الانتخابات، والقهر الذي مارسته تلك الأنظمة، وأدى إلى قتل الآلاف الشعب، واعتقال الألوف. وكان للدماء التي سالت على الأرض، الدافع الأكبر لتحرك الشعوب جراء اضطهاد الأنظمة، وقهرها لشعوبها.
انهيار الدول مدخله الظلم
سياسة القهر والإفقار، والاعتداء على أموال الناس وممتلكاتهم، وكبت الحريات، من بعض الأنظمة؛ يُعدّ إرهاصًا من إرهاصات انهيار الدول، وذهاب الممالك الذي ذكره ابن خلدون (808هـ) في كتابه: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر، ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر”، إذ عنوَن الفصل الثالث والأربعين من كتابه بـ “الظلم مؤذن بخراب العمران”، وبيّن بأن ارتباط خراب العمران بالظلم أمرٌ نسبي؛ فبقدر ما يكون الظلمُ بقدر ما يؤولُ إليه العمران من الخراب؛ فإن كان يسيرًا كان الخراب بقدره، وإن كان شاملاً عامًا في كل مناحي حياة الفرد والمجتمع، كان الخراب للدولة برمّتها؛ إذ تذهب مادة الحياة فيها وفي المجتمع.
وقد حذّر النبي، صلى الله عليه وسلم، من وبال الظلم على العمران وبيّن أثر الظلم، وكيف يؤدي إلى هلاك الأمة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
أدوات الظالم
هناك العديد من الأدوات التي يستعين بها الظالم على ظلمه، أولها مستشاروه ومعاونوه، ثم أدواته التنفيذية كالجيوش وأجهزته الأمنية، وهناك من يروج له وينشر فضائله، ويزين مساوئه كالإعلام، وهناك المؤسسة المُشرعة لظلمه وهم شيوخ السلاطين وعلماؤهم وقضاتهم، وأخطر هذه الأدوات وأكبرها وأكثفها هي الشعوب والجماهير، فالظالم يستخدمها في ظلمه، بل لولاها لما ظلم ولما استرسل في ظلمه ولما تمادى وطغى وتجبّر؛ لأن الظالم إذا لم ير رادعًا يردعه ويقف في وجهه زاد ظلمه وطغيانه، وعلا جبروته وسلطانه، وأخذ بغير حق، وسجن بغير حق، ونفى بغير حق، بل قتل بغير حق، حتى إنه سيتأله وسيعاقب كل من يخالفه، وربما كل من لا يحبه أيضًا.
ومن هنا حذّر القرآن من السكوت على الظالم، لأن السكوت هو معاونته من حيث ندري أو لا ندري، ولمّا ذم الله قوم فرعون قال في وصف حالهم معه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف: 54)، أي لولا أنهم قبلوا استخفافه لما قادهم إلى أن يعبدوه.