فيلم ناجي العلي.. خارج فلسطين (الوطن) العمر غير محسوب

في الثاني والعشرين من يوليو عام 1987 أطلقت رصاصة غادرة من الخلف في رأس فنان الكاريكاتير العربي الفلسطيني ناجي العلي، وأيًا ما كانت مصدر تلك الرصاصة من هذا المسدس الكاتم الصوت، والتي رسم موقفها تمامًا ناجي في واحدة من رسوماته الشهيرة، فإن ناجي العلي صوت الضمير العربي صار عدوًا لكل أعداء هذا الضمير.
لم تكن تلك الرصاصات سوى تعبير عن هؤلاء الذين يديرون شؤون الوطن وولاؤهم لأعدائه، فسواء كانت تلك الرصاصة من العدو أو مندوبيه في أي أرض عربية، فقد رحل العلي بعد غيبوبة 37 يومًا من انطلاقها، وبقي حنظلة إبداع ناجي العلي وممثله حاضرًا في الضمير العربي وفي التاريخ رمزًا للمقاومة العربية في كل زمان ومكان.
نور الشريف متهم بالخيانة
أربع سنوات فقط بين الرصاصة التي أطلقت في لندن عصر ذلك اليوم على رأس ناجي العلي، وبين الحملة المسعورة التي أطلقت على فيلم ناجي العلي إنتاج 1991، تأليف بشير الديك، إخراج عاطف الطيب وبطولة الفنان العربي المثقف نور الشريف والممثلة اللبنانية ليلي جبر والفنان محمود الجندي، عن حياة ناجي العلي منذ خروجه من قريته الشجرة وعمره 11 عامًا حتى وفاته، فما أن عرض الفيلم في افتتاح مهرجان السينما في ديسمبر 1991، حتى انطلقت حملة نالت من الفيلم وأبطاله ومخرجه ومؤلفه، واتهم الجميع بالخيانة، وتجاهل دور مصر في القضية الفلسطينية.
الفيلم عرض بأمر من حسني مبارك بعد شكوى من ياسر عرفات له، فقد طلب مبارك من أسامه الباز مشاهدة الفيلم، وأعجب أسامة به فتم عرض الفيلم، ورغم ذلك استمرت حملة شعواء شارك فيه كثير من الفنانين والمثقفين، وأيًا ما كان مصدر تلك الحملة خارجيًا أو داخليًا من أعداء ناجي العلي والقضية العربية، فقد ماتت الحملة، وبقي فيلم ناجي العلم واحدًا من أهم أفلام المقاومة العربية، ويكفي صناعة هذا الفيلم ليخلدهم في تاريخ السينما العربية رغم أن لديهم الكثير من الأعمال المهمة سينمائيًا ونذكر منها سواق الأتوبيس، كتيبة الإعدام، ولكل مبدع منهم تاريخه السينمائي المهم.
رحلة الشتات الفلسطيني
يبدأ الفيلم في عام 1948، حيث يتم ترحيل أهل قرية الشجرة في فلسطين إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، بعد ميلاد ناجي العلي (1937) بأحد عشر عامًا، وفي إبداع سينمائي يقدم الطيب المشهد الأول حيث يقود ناجي مجموعة من الأغنام ويقف خلفها ناظرًا إلى فلسطين عاقدًا يديه خلف ظهره، هذا المشهد الذي ولدت منه شخصية حنظلة الطفل الفلسطيني العربي الذي يعطي ظهره للعالم وينظر إلى فلسطين منتظرًا العودة.
ومن عين الحلوة في جنوب لبنان حيث يشهد ناجي هزيمة يونيو 1967، إلى العاصمة بيروت يستقر ناجي فيها مدة وخلالها يعايش اجتياح الجنوب اللبناني ثم اجتياح بيروت من جانب الكيان الصهيوني، ولا يصمت ناجي العلي، بل يفضح التخاذل العربي وكل من يتاجر بقضية فلسطين في الداخل والخارج، ويرصد الفيلم تلك التنظيمات التي تتاجر بفلسطين تتناحر في النهار، ويسهرون الليل معًا، فمن وراء قسمتهم نهارًا وجمعهم ليلًا؟
من لبنان إلى الكويت يغادر ناجي في عام 1985، فقد ضاق به وبخطوطه ورسوماته شتاته الثاني، واشتكت منه كل الفصائل وكل القيادات التي انتقدها، فكان عليه المغادرة إلى الكويت، لم يمكث أكثر من عام، ضاقت بحنظلة ابن العاشرة كل الأراضي العربية حين سأله رئيس تحرير القبس الكويتية في الفيلم أن يختار مكانًا عربيًا آمنًا، فقال ساخرًا أمام الخريطة “هات مكان واحد آمن في الخريطة من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر”.
ولم يجد ابن فلسطين سوى لندن تأويه وتأوي مقبرته حتى الآن، حيث استشهد العلي فيها بعد عام من وجوده فيها على يد مجهول، وكم من مجهول في لندن يقتل عربيًا.
وكم من مجهول في الوطن العربي يقتل مقاومًا أو عالمًا أو مفكرًا كبيرًا.
ناجي العلي وحنظلة
يتشابه ناجي العلي وطفله حنظلة كثيرًا من حيث السمات والمظهر فقد قيل عنه أنه كان قليل الكلام، يمارس الرسم طوال أوقاته وكأنه يصارع الزمن في رسم كل أفكاره، ينتهي من رسوماته، ثم يسلمها لإدارة التحرير ويمضي عاقدًا يده خلف ظهره ناظرًا إلى مجهول هناك، في الكويت ولدت شخصية حنظلة وعلى مدار عامين كان ناجي لا يتوقف عن الرسم ليترك لنا كل أفكاره عن الواقع العربي والفلسطيني.
عن نفسه يقول العلي “إنني لست مهرجًا، ولست شاعر قبيلة أي قبيلة، لست محايدًا أنا منحاز لمن هم تحت.. لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى.. ولمن يخرجون من حواري الخرطوم يمزقون بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقرؤون كتاب الوطن بالمخيمات، أنا ناجي العلي رسام الكاريكاتير العربي من فلسطين”.
وعندما سُئل ناجي: متى يدير حنظلة ظهره للعالم؟ قال “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.
ناجي العلي ومصر
كان ناجي العلي عاشقًا لمصر كثيرًا، وكان يضع أمالًا كبيرة على نهضتها وقيامها من عثرتها التي بدأت بمعاهدة كامب ديفيد، وكان يرصد هذا الواقع المرير بعيون العاشق والمحب، وتوقع في رسوماته تضاؤل الدور العربي لها بعد اتفاق السلام مع الكيان الصهيوني.
رغم أن ناجي العلي عايش مرارة هزيمة الجيوش العربية في يونيو 1967، إلا أنه ظل محبًا لجمال عبد الناصر الذي أطلق اسم ابنه خالد على اسم خالد جمال عبد الناصر، وكانت كنية ناجي العلي أبا خالد.
الشخصية المصرية في فيلم ناجي العلي
أثارت شخصية سعدون المصري التي أداها ببراعة محمود الجندي (أربعة مشاهد فقط) الكثير من الجدل، واتهم صناع الفيلم بتشويه مصر من خلالها، وهي شخصية المصري الذي أرهقه الواقع فغاب عنه مخمورًا، ولكنه يرى تحرير فلسطين في وحدة الجيوش العربية ومجيئها إلى فلسطين ولبنان.
في حوار مبهر كتبه ببراعة بشير الديك يسأل سعدون المصري ناجي العلي: هي الجيوش العربية “مش ها تيجي؟”، ويرد ناجي: الجيوش العربية مشغولة؟ ويبدو أنها ما زالت!!
يسأله سعدون مرة أخرى: “بتحارب في حتة تانية؟“، ويصمت ناجي ويظل سعدون يتساءل “متى تأتي الجيوش العربية؟” حتى يسقط شهيدًا برصاص جيش الاحتلال على شاطئ صيدا وهو يتوعدهم بحضور الجيوش العربية ومحوهم من على الأراضي العربية.
أخيرًا
يا توتة الدار صبرك على الزمان إن دار..
لا بد ما نعود.. مهما طوّل المشوار.
“من التراث الفلسطيني من إبداع مغنٍ فلسطيني في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة مسقط رأس ناجي العلي”.