القيادة والحوار الديمقراطي: كيف تفتح ثورة الاتصال المجال العام؟!

الجيل الخامس من ثورة الاتصالات

التحديات التي تهدد وجود الدول تفرض على الشعوب أن تبحث عن قيادات تتمتع بمؤهلات وقدرات متميزة، من أهمها القدرة على إدارة الحوار الديمقراطي.

فالقيادة التي تفتح المجال العام للحوار يمكن أن تستثمر الثروة البشرية في إنتاج أفكار جديدة تزيد قوة الدولة، وتساهم في تقديم إنجازات حضارية ترفع مكانتها العالمية.

لذلك يرتبط مستقبل الدول بقدرة الشعوب على اختيار قيادات تدرك أهمية الحوار الديمقراطي في مجال عام مفتوح.

الحوار ينتج حلولا جديدة للمشكلات

ولقد أصبحت الدول تحتاج إلى تفكير إبداعي، ومشروعات حضارية لمواجهة مشكلاتها. لذلك فإن الشعوب التي تريد أن تتوصل إلى حلول جديدة لأزماتها يجب أن تفتح آفاق الحوار الذي تتم فيه المناقشة بحرية وعقل مفتوح يشجع الناس على التعبير عن أفكارهم واختيار قياداتهم.

ففي المجال العام المفتوح تظهر القيادات التي تعبر عن آمال الشعوب، وتمتلك القدرة على تحقيق طموحاتها، وتستطيع أن تحفز الشعوب لتحقيق الإنجازات الحضارية.

قيادة تحترم الحق في التفكير والتعبير

لذلك تظهر بوضوح قوة العلاقة بين القيادة والحوار الديمقراطي، فالقيادات التي أصبحت الشعوب تحتاج إليها هي تلك التي تحترم حق الإنسان في التعبير عن رأيه وعرض رؤيته والاتصال بالجماهير، وتستمع إلى الآخرين بعقل مفتوح يستوعب الجديد في رؤيتهم وأفكارهم.

وعندما تمتلك الشعوب القدرة على الحوار في مجال عام مفتوح تظهر القيادات، وتبرهن على قدرتها وكفاءتها ومؤهلاتها للقيادة، فتتمكن الجماهير من اختيار قياداتها من الذين يمتلكون القدرة على تقديم المشروعات الحضارية.

الحوار وقيادة التغيير

إن الشعوب التي تريد أن تبني مستقبلها يجب أن تكافح لتغيير واقعها، لذلك تشتد حاجتها إلى أشخاص يمتلكون الرؤية والقدرة على قيادة التغيير وإدارته.

ولقد كان من أهم العوامل التي أدت إلى فشل دول الجنوب في إدارة مواردها، واستثمار ثرواتها البشرية والمادية في تحقيق التقدم، أن نظمها الحاكمة كانت محدودة الطموح، ولا تريد سوى تحقيق الاستقرار. لذلك قامت بإغلاق المجال العام، وانتهكت حقوق الإنسان في التفكير والتعبير عن رؤى جديدة تحقق التغيير.

لماذا شعرت الشعوب بالعجز؟!!

وكانت النتيجة المرة لذلك أن تدهورت أحوال البلاد والعباد، وشعرت الشعوب بعجزها عن بناء المستقبل، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والتبعية.

ولقد كانت النظم الحاكمة التي تريد المحافظة على الوضع الراهن هي العقبة التي حالت دون أن تحقق الشعوب آمالها وتبني مستقبلها. وفي غياب الحوار الديمقراطي لم يكن أمام الشعوب بديل سوى الثورة على هذه النظم، وكان من أهم أهداف الثورات فتح المجال العام أمام الحوار الديمقراطي بوصفه مقدمة ضرورية لتمكين الشعوب من اختيار المشروع الحضاري الذي تبني على أساسه مستقبلها.

لكن النظم تخاف من التغيير!

كان من أهم سمات النظم الحاكمة في الدول الجنوبية الفقيرة خوفها من الحوار الذي يمكن أن تظهر فيه قيادات جديدة تمتلك مشروعات حضارية.

وساهمت قوى الاستعمار القديم والجديد في زيادة خوف النظم الحاكمة من فتح المجال العام، حتى لا تتمكن اتجاهات سياسية وفكرية من تقديم مشروعات حضارية تقوم على تحقيق الاستقلال الشامل والاكتفاء الذاتي، واستثمار الثروات في تحقيق التقدم، وبناء علاقات الدولة الخارجية على أساس تحقيق مصالح الدولة واحترام سيادتها، والعمل لزيادة قوة الدولة الصلبة والناعمة.

تقييد حرية الإعلام!!

إذا درسنا تاريخ الكثير من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فسنكتشف أن هناك علاقة قوية بين إغلاق المجال العام في هذه الدول وتأييد القوى الاستعمارية للنظم الحاكمة المستبدة، حتى لا يتحقق التغيير، وتظهر قيادات جديدة تستطيع أن تحقق طموح الشعب للاستقلال والتقدم.

لذلك أغلقت النظم المستبدة المجال العام، وقيدت حرية الإعلام، ومنعت التفكير والتعبير لتفرض رؤية واحدة تقوم على المحافظة على الوضع الراهن، والبحث عن الحلول السهلة مثل الديون، وعدم التطلع لتحقيق أهداف بعيدة المدى تزيد قوة الدولة.

قيادة المستقبل

إن من أهم مؤهلات قيادة المستقبل فتح المجال العام، وإدارة الحوار الديمقراطي الذي يتم فيه التعبير عن مشروعات حضارية، لكي تتمكن الشعوب من صياغة مستقبلها على أساس مشروع حضاري.

وقيادات المستقبل في دول الجنوب هي التي تنجح في التعبير عن حلم شعوبها في الاستقلال الشامل وكسر التبعية، وإدارة موارد الدولة بكفاءة.

والأزمات التي أصبح العالم يواجهها تفرض على الدول أن تفكر بأساليب جديدة، وتقدم إنجازات حضارية. ويمكن أن تتقدم أمم وشعوب بمشروعات حضارية جديدة فتقود البشرية؛ لذلك يمكن أن يؤهل الحوار الديمقراطي الشعب للقيادة في إطار إقليمي أو عالمي، عندما يستلهم الشعب تجاربه التاريخية، ويستثمرها في بناء مشروع حضاري يشكل بديلا للمشروع الأوربي الأمريكي الذي يقوم على الاستعمار والاستغلال ونهب ثروات الشعوب.

من المؤهل لقيادة الشعوب؟

في ضوء ذلك فإن الشعب الذي يتمكن من إدارة حوار ديمقراطي تكون نتيجته رؤية جديدة ومشروعا حضاريا هو الذي يمكن أن يؤهل نفسه لقيادة الشعوب.

والواقع يحمل الكثير من المخاطر والأزمات والتحديات، لكنه أيضا يحمل الكثير من الفرص لشعوب يمكن أن تتقدم لقيادة البشرية وإنقاذها من الكوارث التي ستواجهها إذا استمرت في المحافظة على الوضع الراهن.

ولكن من يدير الحوار؟!

من الواضح أن النظم السلطوية المستبدة لا يمكن أن تسمح بحوار يتم فيه تقديم رؤى ومشروعات حضارية جديدة، فكل ما تريده هو المحافظة على الاستقرار في واقع بائس.

لكن هذه النظم يجب أن تدرك استحالة الاستقرار فوق بركان لابد أن يثور يوما ما ليحرق غرور القوة، وأوهام التحكم في الشعوب وإخضاعها.

لذلك لابد أن تتقدم قيادات جديدة لتدير الحوار بين كل الاتجاهات السياسية والفكرية، بعقل مفتوح ونيات مخلصة للتوصل لحلول جديدة للأزمة التي تشتد حتى تخنق الشعوب.

عقولنا يمكن أن تبدع!

والقيادات الجديدة التي تدير الحوار لابد أن تكون قادرة على تحفيز الشعب للتفكير وبناء المستقبل، وهذا يعني أن هذه القيادات يجب أن تبدأ بالعمل لإعادة ثقة الشعب بنفسه، وتحريره من الشعور بالعجز والإحباط والهزيمة النفسية.

لكن كيف يمكن أن تظهر هذه القيادات، وتتقدم لتحمل المسؤوليات ومواجهة التحديات؟!

إن ثورة الاتصال يمكن أن توفر لنا إمكانيات لإدارة الحوار، وفتح المجال العام، وكسر القيود التي تفرضها السلطات.. وعقولنا يمكن أن تبدع أساليب جديدة لتبادل الأفكار والآراء ونشرها، وإنشاء منصات تفاعلية ووسائل إعلامية جديدة، وتطوير أساليب الكفاح ضد الاستبداد المرتبط بالاستعمار والتبعية.

وفي هذا المجال العام الذي يمكن أن نفتحه باستخدام ثورة الاتصال يمكن أن تظهر قيادات التغيير التي تقدم للشعوب مشروعات حضارية، وتتمكن من إقناع الجماهير بها. وهذه القيادات التي ستظهر في المجال العام سيكون لها دورها المهم في المستقبل عندما تتمكن شعوبنا من تحقيق التغيير، واستعادة حريتها وحقها في اختيار نوابها وحكامها.

في المجال العام الافتراضي تظهر النجوم!

وإذا كنا لا نستطيع أن ندير الحوار الديمقراطي المجتمعي في المجال العام الواقعي على أرض أوطاننا المقهورة، فإننا يمكن أن نديره في المجال العام الافتراضي عبر المنصات والوسائل الإعلامية.

وفي هذا الحوار يمكن أن تظهر نجوم جديدة يجذب سناها كل الذين يشتاقون للحرية والعدل، ويتطلعون لبناء مستقبل دولهم على أساس الاستقلال الشامل.

وفي هذا الحوار يمكن أيضا أن نتفق على منظومة من الحقوق والأحكام من أهمها احترام حقوق الجميع في الاتصال بالجماهير وإقناعها، وأن تتنافس القوى الوطنية في التعبير عن آمال الشعوب في الحرية والديمقراطية والاستقلال.

لا تستطيع السلطات إغلاقه!

في الحوار الديمقراطي الذي يمكن أن نديره عبر المنصات وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والوسائل الإعلامية يمكن أن تظهر القيادات، وتثبت قدرتها على تقديم رؤى جديدة، وصياغة أحلام شعوبها، والتعبير عن آمالها.

إن السلطات لا يمكن أن تسمح بإدارة حوار يحقق التغيير ويبني المستقبل، لكننا يمكن أن نبدع ونبتكر أساليب جديدة للكفاح لبناء المستقبل، ويمكن أن نتحاور في مجال عام فتحته لنا ثورة الاتصال، ولن تستطيع السلطات إغلاقه.

وهناك الكثير من شباب الأمة يتميزون بالكفاءة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال وإنشاء المواقع الإلكترونية، ويمكن أن يساهموا في بناء مستقبل الأمة الذي يقوم على الحوار في مجال عام افتراضي، يناقش فيه الجميع بحرية كل مشكلات الأمة وقضاياها.

المصدر : الجزيرة مباشر