من الملك لويس إلى الرئيس قيس.. دساتير الطغيان ولعناتها

الفارق بين دستور نظم الحكم الديمقراطية وتلك الاستبدادية أن الأول يُكتب على مقاس الشعب، أما في الثانية فإنه يُكتب على مقاس الحاكم، وقد لا يطيق الحاكم فكرة الدستور من الأساس، لما فيه من تقييد ولو بسيط لطغيانه وسطوته فيحكم بهواه، وقد يؤلف هو ما يعتبره دستورًا أشمل من الدساتير المعروفة، مثل القذافي الذي حكم ليبيا أكثر من أربعين عامًا بلا دستور مكتفيًا بالكتاب الأخضر.
(أنا الدولة والدولة أنا) هو التعبير الأشهر للحاكم المطلق، وهو ما نطق به الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا (1661-1715)، لم يكن ذلك تعبيرًا شخصيًّا عنه فقط، لكنه أصبح تجسيدًا للحكم المطلق أيًّا كان شكله ملكيًّا أو جمهوريًّا.
على خطى القذافي
استلهم الرئيس التونسي قيس سعيّد كل تجارب الطغاة من قبله، وإن بدا أكثر تأثرًا واستلهامًا لأفكار العقيد القذافي وكتابه الأخضر، وهو ما نضح به مشروع دستوره الذي طرحه للاستفتاء العام في 25 يوليو/تموز المقبل في الذكرى الأولى لانقلابه على الدستور نفسه، وعلى العملية الديمقراطية برمتها.
قبل أن ينشر قيس سعيّد مشروعه يوم الخميس الماضي، كتبتُ في هذا المكان مقالًا بعنوان “دولة بلا دين.. ورئيس بلا مساءلة” (22 يونيو/حزيران 2022). كانت هناك مؤشرات أولية لمحتوى الدستور الجديد، لكنني تكهنت بباقي النصوص التي تجعل من قيس حاكمًا مطلقًا، لا يتعرض لمساءلة، وقد جاءت النصوص المنشورة مؤيدة لذلك، فهي تمنحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة في مقابل تقليص صلاحيات المؤسسات العامة الأخرى مثل البرلمان والحكومة، كما أنها أغلقت الباب أمام مساءلة الرئيس، أو محاسبته عن أعماله، فهو لا يُسأل عما يفعل بينما غيره يُسألون.
لا يحترم قيس سعيّد مفهوم “السلطات”، ناهيك عن استقلالها، وفقًا لما هو مستقر عالميًّا وحتى عربيًّا، بل يعتبر هذه السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وظائف عمومية، وأنْ لا سلطة إلا سلطة الشعب، ليصبح هو المجسد لهذه السلطة الشعبية، كما كان سلفه القذافي، وبينما أصبح من حق الرئيس تشكيل الحكومة بعيدًا عن البرلمان، وأصبحت هذه الحكومة مسؤولة أمامه، وبينما أصبح من حقه حل البرلمان، فلم يعد من حق البرلمان سحب الثقة منه، وهو الوحيد بنص (المادة 91) الضامن لاستقلال الوطن، وسلامة ترابه، ولاحترام الدستور وضمان استمرار الدولة!! كما يفتح الدستور المقترح المُدد الرئاسية أمام قيس سعيّد بناء على نص فضفاض يتحدث عن احتمالات تعثر إجراء الانتخابات في مواعيدها لأي سبب (المادة 90).
تشابه مصري تونسي
الفضيحة الكبرى التي فجّرها رئيس لجنة كتابة الدستور الصادق بلعيد هي أن المشروع الذي نشره قيس سعيّد في الجريدة الرسمية تمهيدًا للاستفتاء عليه يختلف كثيرًا عن المشروع الذي أعدّته لجنة بلعيد، وهذا يعني أن الرئيس قيس لم يكتف بما تضمّنه مشروع تلك اللجنة من صلاحيات مطلقة، فأعمل قلمه ليكتب بنفسه كتابه “الأخضر”. وهنا نتذكر موقفًا مصريًّا مشابهًا، فبعد تشكيل لجنة لتعديل الدستور عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013، وانتهاء اللجنة من صياغة مشروعها، فوجئت تلك اللجنة خلال حفل عشاء أقامته لها القوات المسلحة بنص مختلف تم توزيعه خلال الحفل، متضمنًا تغيير هوية نظام الحكم من “مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة” إلى “دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية” والفارق كبير بين كون الدولة مدنية، أي غير عسكرية، وبين حكومتها مدنية، وهو أمر معتاد تحت كل الأنظمة العسكرية التي حكمت مصر، حيث كانت الحكومات المساعدة لها مدنية، أي من وزراء مدنيين. الفارق في المقارنة هنا أن الصادق بلعيد جهر بموقفه الرافض لمسودة دستور قيس سعيّد، بل استقال من رئاسة اللجنة الدستورية، بينما صمت الدكتور محمد أبو الغار -عضو لجنة الدستور المصري ومكتشف ذلك التزوير- مبررًا صمته بأنه لم يُرِد إفساد الفرح، أو منح الإخوان الفرصة للشماتة في اللجنة وفي النظام عمومًا!!
من العجائب التي أتى بها الرئيس قيس سعيّد، إصدار الدستور وبدء تنفيذه بمجرد انتهاء عملية الاستفتاء عليه، دون أن يحدد نِسبًا للحضور أو الموافقة، مما يعني أن مشاركة بضعة آلاف في الاستفتاء سيكون كافيًا لإقراره، ولِمَ لا؟ وقد استند من قبل إلى ما يُسمّى الاستشارة الالكترونية، التي شارك فيها أيضًا عدة آلاف من التونسيين، واعتبرها الرئيس قيس استفتاءً شعبيًّا بنى عليه إجراءاته اللاحقة.
لعنة التلاعب بالدستور
في الثقافة السياسية المصرية ما يُسمّى “لعنة الدستور”، وتعني تعرّض بعض الحكام الذين تلاعبوا بالدساتير لتحقيق مصالح شخصية للعنات ومصائب، حيث كانت التعديلات وبالًا عليهم، أو أنهم لم يستفيدوا منها، واستفاد منها غيرهم. حدث ذلك في إلغاء رئيس الوزراء المصري الأسبق إسماعيل صدقي لدستور 1923، ووضع بدلًا منه دستور 1930 على مقاس الملك، ليستخدم الملك هذه الصلاحيات ضده لاحقًا، كما عدّل الرئيس الأسبق أنور السادات الدستور في آخر أيامه ليفتح مُدد الرئاسة بلا حد أقصى، لكنه قُتل بعدها، واستفاد بهذا التعديل حسني مبارك الذي ظل في الحكم 30 عامًا، كما أن مبارك نفسه عدّل الدستور ليفتح الطريق لتوريث نجله جمال، فقامت ثورة يناير لتطيح بذلك الحلم وذلك الدستور، وقد تنطبق تلك اللعنة على الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي منح منصب الرئيس صلاحيات مطلقة، وهو ما سيستفيد منه غيره بعد التخلص منه.
