كيف تستخدم الدولة تاريخها في بناء صورتها الذهنية وقوتها الناعمة؟!

أردوغان

‏التاريخ ثروة للدولة يمكن أن توظفها لبناء مستقبلها، لكن ادارة تلك الثروة تحتاج إلى قيادة تفهم دور التاريخ، وتستوعب دروسه وتستخدمه في تعبئة الشعب.

إن توظيف التاريخ في بناء مستقبل الدولة علم جديد يمكن تطويره خلال القرن الـ21، لتواجه به الدول الكثير من المخاطر والتحديات، فدروس التاريخ وتجارب الكفاح تساهم في بناء التحالفات بين الشعوب، وتفتح المجال لبناء عالم أكثر عدلا.

لذلك تحتاج الدولة إلي دراسة تاريخها برؤية جديدة لا تقوم على سرد الأحداث، ولكنها تهدف إلي وصف تجارب الكفاح والإنجازات الحضارية، ومعرفة العوامل التي أدت إلي الهزائم والضعف والخضوع للاستعمار.

إن الدولة يمكن أيضا ان تبني رؤيتها للتحالف مع الدول الأخرى على أساس القرب الجغرافي والحضاري والثقافي والتاريخي، ويمكن أن تقوم بدور قيادي في المنطقة أو الإقليم عندما تقدم للشعوب الأخرى تجارب كفاحها في تحقيق أهداف عظيمة مثل الاستقلال الشامل وتحقيق التنمية والتقدم والديموقراطية.

بناء الصورة الذهنية

من أهم المجالات التي يمكن أن يستخدم فيها التاريخ بناء العلاقات طويلة المدي مع الشعوب، ولكي تتمكن الدولة من تحقيق هذا الهدف فإنها تحتاج إلي تحسين صورتها وسمعتها وتقديم نفسها للعالم على أسس جديدة من أهمها أنها تقوم بوظيفة حضارية تاريخية.

فكيف يمكن استخدام تاريخ الدولة لبناء صورتها الذهنية التي تشكل مصدراً مهماً للقوه الناعمة؟!.

‏الإجابة المبدعة على ذلك السؤال ‏يمكن أن تساهم في بناء مستقبل العلاقات بين الشعوب وتحدي الصور النمطية التي تم انتاجها ‏خلال القرن العشرين.. ‏والتي شكلت أساساً للإنتاج الدرامي الغربي ولصناعة التسلية الغربية.

‏كما أن استخدام التاريخ في بناء الصور الذهنية يمكن أن يشكل اساساً لنوع جديد من الصراع في المستقبل.

صراع جديد

‏إن استخدام التاريخ في بناء الصور الذهنية ‏يمكن أن يقلل حدة العداء بين الشعوب، ‏ويزيد مشاعر الحب والإعجاب والرغبة في التعاون والتطلع إلى بناء علاقة دائمة، لكنه يمكن أن يساهم أيضا في زيادة الصراع بين الدول، وتطوير قدرات الشعوب على المقاومة وتحدي الدول الاستعمارية.

هذا يعني أننا يمكن أن نفتح مجالاً علمياً جديدة يربط بين السياسة الخارجية والعلاقات الدولية من ناحية والتاريخ وإنتاج المعرفة والاتصال والإعلام من ناحية أخرى.. وهذا العلم يساهم في بناء العلاقات بين الشعوب على أسس جديدة تتجاوز استخدام القوة الصلبة في القهر إلى تحقيق الرضى والاتفاق والتعاون لتحقيق أهداف مشتركة.

بناء التحالفات!

هذا يعني أن التاريخ يمكن أن يكون فاعلاً في بناء التحالفات ‏في المستقبل بين الدول، ‏ويمكن أن يساهم في التقليل من امكانيات التحالف والتعاون بينها.

‏فلكي تبني دولة علاقة مع دولة أخرى فإنها لابد ‏أن تقيم التجربة التاريخية لهذه العلاقات، وتحاول أن تكتشف امكانيات التعاون، ‏وهل يمكن أن تشجع هذه التجربة على بناء تحالف.

فمن المؤكد أن التاريخ يؤكد صعوبة بناء تحالف بين دول الاستعمار والدول الإفريقية والآسيوية التي يتزايد وعي شعوبها بأن الاستعمار كان هو العامل الرئيس في افقار هذه الدول واضعافها ومنعها من تحقيق التنمية والتقدم.

علاقات غير قابلة للحياة

‏ان كثيراً من النظم يمكن أن تقيم علاقات مع نظم الحكم في دول أخرى، ‏لكن هذه العلاقات غير قابلة للحياة، ‏ويمكن أن تنهار بمجرد تغيير هذه النظم، ‏وتعتبر العلاقات بين إسرائيل والنظم العربية مثالاً جيداً ‏على أهمية الوعي بالتجربة التاريخية في بناء العلاقات.. ‏

فالشعوب ترفض العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي لأن التجربة التاريخية لها توضح عدم إمكانيات بناء علاقات طويلة المدى على أسس القهر والعدوان والسيطرة ‏وإذلال الشعوب وتدمير المدن وقتل الأطفال ودماء الضحايا.

‏لذلك كانت الشعوب العربية منذ عام ١٩٧٧ ‏خارج إطار الأجواء الاحتفالية بإقامة تلك العلاقات، ‏وهي تنظر لها باعتبارها خيانة.. ‏لذلك ستنهار هذه العلاقات بمجرد تغيير النظم، ويشكل ذلك حالة مهمة توضح أن التجربة التاريخية يمكن أن تجعل اقامة علاقات دائمة بين الشعوب عملية مستحيلة. وأن العلاقات بين النظم الحاكمة يمكن أن تكون نتيجة للخوف والتبعية والمصالح لكنها لا يمكن أن تستمر لأنها تتناقض مع دروس التاريخ.

كما يوضح ذلك أن التاريخ فاعل في بناء العلاقات الدولية خاصة في تشكيل العلاقات طويلة المدي مع الشعوب.

التاريخ والقوة الناعمة

‏إن التجربة التاريخية تشكل أساساً للعلاقات بين الدول، ‏وهي تساهم في بناء القوة الناعمة للدولة، وزيادة تأثيرها على الشعوب الأخرى، فهذه التجربة يمكن أن تساهم في زيادة قوة الدولة الناعمة عندما تتمكن من توظيف تاريخها في بناء العلاقات طويلة المدي مع الشعوب.

كما أن الدولة يمكن أن توظف تاريخها في زيادة جاذبيتها وبناء صورة ايجابية لنفسها تساهم في اقناع الشعوب بأهمية التعاون والتحالف معها حتى إن ساءت العلاقات بين النظم الحاكمة ووصلت في بعض الأحيان إلي درجة العداء.

العمق الاستراتيجي

‏كما أن القراءة المتعمقة للتاريخ تساهم في زيادة قدرة الدولة علي تطوير خيالها الجغرافي، ورؤيتها الاستراتيجية لموقعها ودورها ووظيفتها ومكانتها الإقليمية حيث أدركت تركيا -على سبيل المثال- أهمية استخدام تجربتها التاريخية في بناء العلاقات مع الشعوب والتحالفات مع الدول.. ‏وكان هذا الاتجاه نتيجة لرفض ‏الاتحاد الأوربي انضمام تركيا له من ناحية، ‏وشعور تركية بأنها فقدت أهميتها بالنسبة للغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، ‏حيث كان يعتبرها حاجزاً ضد انتشار الشيوعية.

‏لذلك درست تركيا امكانيات استخدام تاريخها لتطوير قوتها الناعمة، والتأثير على ‏الشعوب لتحقيق أهداف سياستها ‏الخارجية، ‏وزيادة قوتها الاقتصادية.

‏كما أدركت تركيا أهمية تاريخها في بناء علاقاتها مع الدول المجاورة لها، ‏وبناء رؤية استراتيجية طويلة المدى لزيادة الروابط مع الشعوب العربية والإسلامية.

‏ويعود مفهوم العمق الاستراتيجي إلى الرؤية التي بناها حزب العدالة والتنمية، والتي كانت نتيجة لامتلاك قيادته الخيال الجغرافي والتاريخي، وتصورهم لمستقبل تركيا ومكانتها في العالم.

ويقوم هذا المفهوم على أن تركيا ‏تمتلك عمقاً جغرافياً وتاريخياً يمكنها من بناء ‏علاقات قويه مع دول المنطقة، ‏وزيادة التعاون الاقتصادي مع الدول المجاورة.

‏كما أن هذا العمق يمكنها من زيادة أهمية الدور الذي يمكن ‏أن تقوم به في العلاقات الدولية.

مكانة متميزة ودور تاريخي

‏لقد أدركت القيادة التركية ‏أن العمق الجغرافي ‏والتاريخي لتركيا يعطيها مكانة متميزة ويزيد مسؤولياتها في القيام بدور فعال في المنطقة.

‏وقد مثل ‏هذا المفهوم ‏بداية مرحلة جديدة في تركيا، ‏تم الانتقال فيها من مرحلة التركيز على مفهوم الدولة القومية كأساس لبناء ‏علاقة تركيا الخارجية إلى مرحلة جديدة تقوم فيها تركيا باستخدام تاريخها وثقافتها لبناء علاقاتها.

 ‏دولة مركزية تقوم بدور حضاري

من أهم انجازات حزب العدالة والتنمية ورئيسه وحكومته أنه قام ببناء قصة جديدة لتركيا تقوم على أساس تجربة تاريخية طويلة تؤهلها للقيام بدور حضاري، ويمكن أن تقود الشعوب العربية والإسلامية لتحقيق التقدم الاقتصادي المرتبط بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان‏.

لذلك حاولت تركيا بناء سياسة خارجية متعددة الأبعاد‏.. فشهدت السياسة الخارجية التركية خلال العقد الماضي جهوداً لبناء علاقات طويلة المدى مع شعوب دول البلقان ‏والدول العربية والأفريقية، ‏والحوار مع قادة هذه الدول.

‏ وهذه السياسة تهدف إلي تحويل تركيا إلى دولة مركزية تقوم بدور مهم ‏في السياسة العالمية ‏يتفق مع أهمية تجربتها التاريخية ومكانتها الجغرافية.

التاريخ يبني المستقبل

‏ أدت رؤية حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب الطيب أردوغان إلى زيادة القوة الناعمة للدولة التركية، ‏ وساهمت التجربة التاريخية في زيادة هذه القوة.. حيث جعلت الشعوب تتطلع إلى هذا الدور ‏المستمد من تاريخ طويل وعمق حضاري وإنساني مثل الشعب السوري الذي وجد من الدولة والشعب التركي المساندة والحماية.

وهذا الدور الذي ‏تتطلع له الشعوب يشكل اساساً ‏لتطوير القوة الناعمة التركية، ‏وقد تنبهت بعض الدول لأهمية هذا الدور في بناء ‏المستقبل فعملت على وضع العقبات ‏التي تحول دون نمو هذا الدور، لكن من الواضح أنها لم تحقق نجاحا كبيرا، فالدولة التركية أصبحت توظف تاريخها لبناء علاقات طويلة المدي مع الشعوب.

‏هناك جانب آخر مهم هو أن التاريخ يفرض على الدول مسؤولية في القيام بأدوار مستقبلية، ‏وهذا يفسر موقف تركيا من سوريا وليبيا واذربيجان وقبرص التركية ودول البلقان والدول الإفريقية.

‏وقد أوضحت ‏استطلاعات الرأي العام ان الشعوب في العالم العربي والبلقان ‏تنظر بشكل إيجابي للدور التركي، ‏وتتطلع بإعجاب إلى التجربة التركية في تحقيق التقدم السياسي والاقتصادي.

جاذبية التاريخ

‏هذا الإعجاب بالدور التركي يشكل ‏مصدراً مهماً لقوتها الناعمة، ‏وهو إعجاب لم يكن مستمداً من الواقع فقط، ‏لكنه يجد جذوره في التاريخ الذي عملت تركيا على استخدامه لزيادة قوة علاقتها به هذه الشعوب.

‏ويلاحظ أن علاقة تركيا بدول البلقان ‏مثل البوسنة وكوسوفو تؤدي إلى زيادة أهمية دورها في أوروبا، ‏فهذه العلاقات ستجعل تركيا فاعلاً في تشكيل مستقبل أوروبا.

‏هذا يعني انه علاقات تركيا التاريخية بدول البلقان والدول العربية تؤدي ‏إلى زيادة مكانتها الدولية وأهميتها كفاعل في تشكيل التحالفات، ‏كما تؤدي إلى زيادة قوتها الناعمة.

‏وهذا يوضح أهمية التاريخ في بناء قوة الدول الناعمة، ‏والتأثير على الشعوب لتحقيق اهداف سياساتها الخارجية.

‏لكن هناك الكثير من الدول لم تدرك بعد أهمية قراءة تاريخها ‏واستخدامه في علاقاتها الدولية.

‏وهذا يفتح المجال لتطوير علم التاريخ، ‏وعلاقته بالكثير من العلوم مثل علوم السياسة والعلاقات الدولية والصور الذهنية والإعلام، وهذا يشكل جانبا مهما من المشروع العلمي الذي أعمل لإنجازه.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان