هل نجح بوتين في تغيير بوصلة السياسة التركية تجاه سوريا؟!

أردوغان وبوتين

كان من المنتظر أن يسفر لقاء أردوغان وبوتين الذي تم مؤخرا في منتجع سوتشي على البحر الأسود عن الإعلان رسميا عن موعد بدء العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، وحجمها وحدودها المكانية والزمانية، خصوصا أن موسكو تعرب بشكل شبه مستمر عن تفهمهما لما تراه مخاوف تركية مشروعة، يجب إنهاؤها عبر التوصل إلى حل جذري ودائم لها.

لكن ما تم الإفصاح عنه رسميا، وما تم تسريبه عمدا لوسائل الإعلام بعد الاجتماع الذي استمر على مدى أربع ساعات كاملة، جاء مخالفا لكافة هذه التوقعات، التي راهنت على أن لقاء الرئيسين هدفه الاتفاق بشأن العملية العسكرية بعيدا عن إيران التي تصر على رفض قيام تركيا بأي عملية عسكرية على الأراضي السورية بشكل عام.

فقد كشفت المعلومات المتداولة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سعى خلال هذا اللقاء لتبادل الأدوار مع نظيره التركي، منتهجا نفس المنطق السياسي الذي يتعامل به أردوغان في الأزمة الروسية الأوكرانية، فإذا كان أردوغان يرغب في الجمع بين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول رغم الحرب المتقدة بينهما، وعمليات التدمير التي وقعت بأغلب المدن الأوكرانية، والحصار الاقتصادي الذي تعاني منه روسيا، فلماذا لا يقوم بوتين بالجمع بين أردوغان والأسد في موسكو؟ فلا حرب فعلية بينهما، والمسألة في مجملها بينهما تتمحور حول خلافات في وجهات النظر تجاه بعض القضايا التي يسهل الجلوس على طاولة المفاوضات والتباحث بشأنها بينهما!

بوتين أوضح أنه إذا كانت أنقرة تسعى فعليا لإزالة العناصر الكردية المسلحة الموجودة على حدودها في الشمال السوري، وتطهير المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من عناصر حزب العمال الكردستاني التي تراها تركيا مهددة لأمنها القومي بشكل نهائي فلا مناص من التواصل السياسي المباشر بينها وبين النظام السوري، مؤكدا ضرورة التمهل وعدم اتخاذ أي خطوات قد تزيد من حالة عدم الاستقرار التي تمر بها سوريا، مما قد يضر فعليا بوحدة أراضيها، في إشارة إلى رفضه للعملية العسكرية المقترحة من جانب تركيا.

بوتين وتوظيف العناصر الأساسية

وفي سعيه لإقناع نظيره التركي بوجهة نظره، استغل بوتين العناصر الأساسية الثلاثة التي تنطلق منها السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، حيث تؤكد تركيا دوما على هذه العناصر التي لا بديل لها، ولا تراجع عنها، وهي أهمية الحفاظ على الوحدة الترابية للأراضي السورية، وضمان سلامة وأمن اللاجئين العائدين إلى مدنهم وقراهم، وإبعاد العناصر الكردية المسلحة عن الحدود الجنوبية لتركيا مسافة تحفظ الأمن القومي التركي من عبث العابثين، وتحقق الاستقرار والأمان لمواطنيها في المناطق الحدودية.

وهي أساسيات تتفق مع وجهة نظر النظام السوري، وبالتالي فإن القضايا الخلافية بين الجانبين عدا ذلك تبدو هامشية يمكن الجلوس والتفاوض بشأنها وجها لوجه، بما في ذلك ما يرتبط بمشاركة قوى المعارضة في الحكم ودمجها ضمن السلطة الحاكمة من خلال التوافق على مواد الدستور الجديد الذي يتم إعداده حاليا برعاية الأمم المتحدة.

يهدف بوتين من خلال جهود الوساطة التي يبذلها في هذا الملف إلى ضرب عدة عصافير بحجر واحد: تخفيف حدة التوتر في المنطقة، وإعادة العلاقات التركية السورية إلى ما قبل 2011، حيث شهدت هذه الفترة تعاونا وتفاهما تاما وصداقة بين البلدين، وإنهاء الخلاف في وجهات النظر بين أنقرة وكل من موسكو وطهران حول القضية السورية وتوحيد مواقفها، وتشكيل جبهة موحدة من العواصم الثلاث ضد الوجود الأمريكي في سوريا.

موقف واشنطن من آليات تبديد المخاوف التركية

خارطة الطريق الروسية المعروضة على أنقرة يقابلها مقترح أمريكي، يقضي بقيام واشنطن بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وإبعادها عن الحدود التركية السورية مسافة 30 كلم داخل العمق السوري، على طول الشريط الحدودي بين البلدين، وذلك مقابل أن لا تقف أنقرة حجر عثرة في طريق إتمام مشروع الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق سوريا، وتوافق علانية أو ضمنيا على وجود كيان كردي لديه نوع من الاستقلالية السياسية في الشمال السوري، مثلما هو الحال في شمال العراق.

خياران وجدت أنقرة نفسها بينهما، وعليها أن تختار أحدهما، بما يحقق لها مصالحها، ويبدد مخاوفها، ويحافظ لها على أمنها القومي، ويعيد الهدوء والاستقرار إلى المنطقة، حتى وإن كان ثمن هذا هو التنازل عن بعض ثوابت سياستها التي درجت عليها خلال العقد الماضي.

المقترح الأمريكي لم يجد استجابة تذكر من جانب أنقرة، التي من الواضح أنها لم تعد تثق في الوعود الأمريكية بشكل عام نتيجة السياسات الأمريكية التي أضرت بمصالحها خلال الفترة الماضية، كما أن موافقتها على قيام هذا الأمر يعني تشجعا غير مباشر منها لأنشطة حزب العمال الكردستاني الانفصالية، وحث الأكراد في جنوب شرق البلاد على التمرد على سلطة الدولة التركية، بل وحمل السلاح إلى جانب العناصر الانفصالية للحصول على منطقة حكم ذاتي أسوة بما هو حاصل في شمال العراق وما يعد له في شمال سوريا، ولا تستبعد تركيا أن يتلقى هؤلاء دعما لوجستيا من الطرفين لتقسيم الدولة التركية نفسها، ومن ثم دمج الكيانات الثلاثة في كيان سياسي واحد.

وبالتالي يصبح من المنطقي بل والطبيعي أن يجد مقترح الرئيس بوتين صدى إيجابيا من جانب تركيا، وإن كانت قد تحفظت على مسألة عقد لقاء ثنائي مباشر بين أردوغان والأسد في هذه المرحلة ولو من خلال اتصال تليفوني، فالأمر لا يزال يحتاج إلى مزيد من الإعداد والتحضير، واستمرار التعاون بين الاستخبارات التركية والروسية، الذي  لم ينقطع على مدى الأحد عشر عاما الماضية.

لكن لا مانع من بدء لقاءات دبلوماسية، وهو ما سبق أن حدث بالفعل، وتم الإعلان عنه رسميا على لسان وزير الخارجية مولود شاووش أوغلو الذي صرح بأنه التقي مع نظيره السوري فيصل المقداد على هامش اجتماع لحركة عدم الانحياز في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبالتالي يمكن تكراره مرة أخرى، خصوصا أن شاووش أوغلو سبق أن أوضح ضرورة وجود إدارة قوية في سوريا لمنع تقسيم أراضيها، إدارة يمكنها السيطرة على جميع أنحاء البلاد، وهذا لن يتأتى إلا من خلال الوحدة والتضامن، في إشارة إلى ضرورة أن يستوعب النظام السوري فصائل المعارضة، ويلبي مطالبها، وتكون شريكة معه في حكم البلاد.

أردوغان وحسابات المكسب والخسارة

وفي هذا الإطار يمكن فهم التصريح الذي أدلى به الرئيس أردوغان عند عودته من سوتشي حينما قال: “إن لدى بوتين مقاربة تقضي بأن الأمر سيكون أكثر دقة إذا قامت تركيا بحل هذه المسألة مع النظام السوري”، مشيرا إلى أن بوتين لديه نهج عادل تجاه تركيا بشأن القضية في سوريا، مما يعني أن تركيا قررت فتح الطريق أمام التعاطي مباشرة مع نظام بشار الأسد عبر الأطر الاستخبارية والدبلوماسية مقدمة لإمكانية زيادة التعاون مستقبلا لحل خلافات البلدين من جهة، وتقريب وجهات النظر بين النظام السوري والمعارضة بما يضمن لها مكانة في حكم البلاد، ويؤمن عودة آمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وهي أحد أهم الملفات التي توظفها المعارضة التركية لإسقاط حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة.

المصدر : الجزيرة مباشر