أيها الإخوان.. استقيموا يرحمكم الله
تُعد جماعة الإخوان المسلمين من أقدم الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وأوضحها منهجًا وفكرًا، وأكثرها اعتدالًا ويسرًا، وأكبرها انتشارًا. ولكنْ رغم ذلك فإن منهجها لم ينجُ من اختلاف العديد من الباحثين بشأنه، ولم يسلم تاريخها، على اختلاف مراحله، من التباسات جعلت البعض يصفها بالتطرف أحيانًا، ويصمها بالإرهاب أحيانًا أخرى، متهمًا إياها بأنها تُخفي غير ما تُعلن في كثير من الأحيان.
ولو تصفحنا العديد من كتب ومراجع الإخوان فإننا سنجد خطين متوازيين في الفكر الإخواني لهما التأثير الكبير -ولا يزال- في فكر حركة الإخوان عالميًّا، الأول رسائل المؤسس الشيخ حسن البنا، والثاني فكر الأستاذ سيد قطب.
ومن ثمَّ حاربها كل الحكام، وخصوصًا في المنطقة العربية، لما لها من تأثير واضح في شعوب المنطقة. وقد عانت أكثر ما عانت في مصر، وخصوصًا في عهد جمال عبد الناصر، ولا تزال تعاني بقسوة وعنف في عهد عبد الفتاح السيسي.
من خصائص دعوة الإخوان
المتتبع لدعوة الإخوان يجد أنها -حسب أدبياتهم- تتسم بخصائص عدة منها: الربانية، والعالمية، والعلمية، والشمول، والتجرد، والاعتدال، والإنصاف. وتحدّث بذلك مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، في العديد من رسائله، فحينما تحدّث عن الربانية قال “الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا أن يتعرّف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها، ونحن الإخوان المسلمون نهتف من كل قلوبنا (الله غايتنا)، فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى”. (دعوتنا في طور جديد، ص 226).
وفي حديثه عن العالمية في الرسالة نفسها، يصفها بأنها “عالمية لأنها موجهة إلى الناس كافة، لأن الناس في حكمها إخوة: أصلهم واحد وأبوهم واحد ونسبهم واحد فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكننا ندعو إلى الأخوة العادلة بين بني الإنسان”.
وحينما تحدّث عن العلمية قال “تحتاج الأمم إلى القوة، كذلك تحتاج إلى العلم الذي يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم، بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة، ويناصره، وحسبك أن أول آية نزلت من كتاب الله {اقرأ…}، ولم يفرّق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بهما جميعًا، وجمع علوم الكون في آية واحدة عليها، وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته”. (نحو النور، ص 282).
وفي حديثه عن الشمول، قال “شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثّلت فيها كل عناصر غيرها من الفِكر الإصلاحية، وأصبح كل مُصلح غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”. (المؤتمر الخامس، ص 123).
وفي وصفها بالتجرد، قال “هي دعوة لا تقبل الشركة إذ إن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء فسيُحرم ثواب المجاهدين ويكون مع المخلفين، ويقعد مع القاعدين، ويستبدل الله لدعوته به قومًا آخرين”. (دعوتنا، ص 16).
وختم بخاصية الاعتدال والإنصاف، فقال “هذا الإسلام الذي بُني على المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صيغة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط”. (نحو النور، ص 286).
والسؤال الجوهري: هل استمرت هذه الخصائص في وجدان المنتسبين للجماعة عبر تاريخها حتى الآن أم إن الأمور تغيرت وتبدلت؟ في ظني أن هناك بعض الخلل وقع في فهوم الكثير من قيادات وكوادر الإخوان حول استيعاب هذه الخصائص كما ذكرها الشيخ البنا، وخصوصًا في الوقت الراهن.
مبادرة القائم بأعمال المرشد الأخيرة
في 29 يوليو/تموز 2022، صرّح القائم بأعمال المرشد الأستاذ إبراهيم منير لوكالة رويترز بأن الجماعة لن تدخل في صراع على السلطة في المرحلة القادمة، كما أنها لا تتبنى العنف طريقًا للتغيير. وأظن أن هذا التصريح والتوجّه قد تأخّر كثيرًا، لأنه في الحقيقة لا يوجد سياسة في مصر في الوقت الراهن، وخصوصًا بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، ولعلّي في مقال سابق دعوت إلى هذه الفكرة بعنوان “رسالة هادئة إلى جماعة الإخوان المسلمين”، نُشر في 18يناير/ كانون الثاني من العام 2018، وفي حينها وُجِّهت لي اتهامات كثيرة. وخلاصته أنه لا بد من اعتزال العمل السياسي (وليس العمل العام)، وإعلان ذلك لمدة من الزمن، وخصوصًا أن منبر السياسة أصبح مشوهًا، وغير مفيد في هذه المرحلة، للإخوان وغيرهم، لأن الجماعة تمر بمحنة كبيرة لم تشهدها من قبل، مع تكالب الأنظمة التي تعادي الفكرة الإسلامية وتحاربها، وتشوهها بكل الوسائل والإمكانيات الجبّارة.
أقول إن الجماعة في هذا الوقت العصيب تحتاج إلى التركيز على وضعها الداخلي، ولمّ شمل أركانها، والاهتمام بالدعوة والتربية ونشر الفهم الإسلامي الوسطي المعتدل الشامل الصحيح في المجتمع، وإيجاد محاضن تربية لتخريج أجيال مجتمعية صالحة، وهذه مهمة عظيمة تعجز عن القيام بها جماعة واحدة أو تجمّع واحد، خاصة في زمن كثُر فيه الفسق والفجور وانتشرت فيه الرذيلة والدعوة إلى الإلحاد تحت رعاية السلطات والمسؤولين، ويُحارب فيه الدعاة والقدوات الربانيون، ويُضيَّق على المساجد وروادها، ويُوجَّه الإعلام لخدمة النظام، وتُشوَّه مناهج التعليم.
والمسألة باختصار أننا إذا أردنا أن نبني أمة قوية قادرة واعدة فعلينا الاهتمام ببناء الإنسان الصالح الذي به صلاح أمور الدنيا والدين.
طبيعة الصراع الحالي داخل الإخوان
ظهر إلى العلن بشكل فجّ الصراع الحالي داخل جماعة الإخوان المسلمين في أعقاب إلقاء أجهزة الأمن المصرية القبض على القائم بأعمال المرشد العام للجماعة الدكتور محمود عزت، في أغسطس 2020، وتولّي الأستاذ إبراهيم منير مهام منصب القائم بالأعمال بدلًا منه. وهذا أدى إلى خلاف مكتوم في البداية، بينه وبين الدكتور محمود حسين وعدد آخر من قيادات الجماعة، ظهَرَ في صورة طلب رسمي (وقَّعه 10 من قيادات مجلس الشورى العام) بتعديل المادة الخامسة من لائحة الجماعة، فيه اعتراض واضح على اختيار منير لهذا المنصب.
وظَلّ هذا الصراع مكتومًا حتى عاود الظهور مجددًا خلال شهر مايو/أيار 2021، في صورة خلاف حول كيفية التعاطي مع المباحثات المصرية التركية بشأن عودة العلاقات بين البلدين، قبل أن يحتدم بشكل واضح في يوليو/تموز الماضي على خلفية إجراءات وقرارات جديدة للأستاذ إبراهيم منير، تضمنت تأجيل الانتخابات القاعدية، ثم قرار حلّ مكتب الإخوان الإداري في تركيا، وحلّ مجلس شورى القُطر، وإحالة محمود حسين وعدد من أنصاره -سُميت مجموعة الستة- إلى التحقيق بدعوى ارتكابهم مخالفات إدارية، ثم تشكيل لجنة إدارية جديدة لإدارة شؤون الجماعة، الأمر الذي قابلته جبهة حسين بانقلاب مضاد، مُعلنةً رفضها قرارات منير، والبدء في حشد قيادات الجماعة وأعضائها لسحب الثقة منه.
ومن ثمّ وصل الخلاف إلى حدته الآن، والظاهر للعيان أن الصف الإخواني المصري في الداخل والخارج انقسم إلى جبهتين متناحرتين على المستوى الإعلامي والبيانات، بل وصل الأمر -للأسف- إلى التراشق اللفظي بين الأفراد، وهذا أخطر ما في الموضوع.
ولعل بيت طرفة بن العبد الذي أنشده قبل 1450 عامًا، يجسد ألم المعاناة حين تأتي من قريب، فقال:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً *** على النفسِ من وقعِ الحسامِ المُهنَّدِ
هل يمكن رأب الصدع داخل الإخوان؟
من المرجَّح -في تقديري والله أعلم- ألّا يلتئم الصف الإخواني قريبًا نتيجة لهذه الانشقاقات، التي أرى أنها ستُضعف دور الجماعة في التأثير من جانب، وتُقلل من اللُحمة الداخلية للصف الإخواني من جانب آخر، وخصوصًا أن الجماعة مرّت بالعديد من الخلافات والانشقاقات في مراحل سابقة، لكن لم تكن بهذه الحِدّة، أو هذا التراشق الإعلامي على السوشيال ميديا.
ومن ثمَّ، إن لم يعِ قادة الإخوان المختلفين خطورة ما هم فيه، فسيكونون سببًا أصيلًا في مرحلة جديدة من تاريخ الجماعة، ربما يؤدي إلى صراع داخلي مذموم، بعد أن خرج إلى العلن، وعليه ينفرط عِقد الجماعة التي من المفترض أن يكون عليها التعويل الكبير في حلحلة الأمور داخل مصر، بسبب الضعف الشديد الذي أصاب -ولا يزال- المعارضة المصرية في الداخل والخارج لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن.
طبعًا هذا الكلام مرتبط بدرجة كبيرة بالشأن الإخواني المصري، ولا شك أن له تأثيره الكبير على الشأن الدولي للإخوان على مستوى الأقطار، وسيُضعف دورهم بالتبعية، مثلما تأثر الشأن الإسلامي العام بسبب إخفاق تجربة الإخوان في حكم مصر.
والخلاصة
أؤكد مرة أخرى أنه على القيادات المتصارعة أن تعود إلى رشدها قبل فوات الأوان، وقبل أن يندم الجميع على ما أوصلوا إليه الجماعة إلى هذا المنحدر الكبير. وإن لم يكنْ للقيادات الوسيطة وعموم الصف الإخواني الدور الأبرز في المعالجة القريبة، فسينقضي تاريخ التنظيم الإخواني المصري، وستبقى هناك مجموعات مختلفة ومتناثرة في الداخل والخارج، ولن يكون لها التأثير الفاعل في اليسر والعسر. ويبقى مصير المعتقلين وأسرهم تحت رحمة السجّان، والنظام الذي لا يرحمهم، وهذا بطبيعة الحال يضيف إلى المشهد المآسي تلو الأخرى.
ومن ثمَّ، سيستمر النظام المصري في التهام البقية الباقية من التنظيمات الإسلامية، حتى القريبة منه، للقضاء الكلي على الحركات الراديكالية التي تزعجه، وتؤرق “إسرائيل”، وأنصار الثورة المضادة إقليميًّا ودوليًّا، وبالتالي إضعاف مصر أكثر وأكثر على المستويات كافة، نتيجة لاستمرار هذه السياسات التي يمارسها النظام المصري.
وأعتقد أنه من الأنسب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ الجماعة إبعاد كل القياديين من الطرفين، الذين كان لهم اليد الطولى في تأجيج هذا الخلاف وظهوره إلى العلن، وأظن أن جماعة بحجم الإخوان المسلمين يوجد فيها قياديون شبان يتولون المسؤولية بكل جدارة واقتدار.