هل يمكن أن يكون رئيس الدولة قائدًا؟!

هناك الكثير من الأسئلة الجديدة التي أصبحت الدول تحتاج إلى إجابة متعمقة عنها من أهمها: هل يمكن أن يكون رئيس الدولة قائدًا، وما الفرق بين الرئاسة والقيادة؟ وما دور رئيس الدولة في إلهام شعبه وتطوير كفاحه لتحقيق أهداف عظيمة؟
والإجابة المتعمقة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى جهود باحثين من علوم السياسة والإدارة والقيادة والاتصال والتاريخ والاجتماع.. ويمكن أن تؤدي إلى تطوير حقول معرفية وعلمية جديدة تساهم في بناء مستقبل الدول.
الرئيس القائد!
لقد بدأ البحثَ في ذلك المجال مايكل سيجيل بكتابه “الرئيس كقائد” الذي قام فيه بتحليل مهارات القيادة لخمسة رؤساء أمريكيين.
ولقد عمل مايكل سيجيل في الكثير من المجالات من أهمها أنه عمله أستاذا في الجامعة الأمريكية، وجامعة جونز هوبكنز.. وكان من أهم النتائج التي توصل إليها أنه لكي يكون الرئيس قائدًا يجب أن يتمتع بمجموعة من المميزات من أهمها:
1- أن يمتلك رؤية يعمل لتحقيقها خلال مدة رئاسته.
2- القدرة على تحقيق رؤيته، وتوظيف المهنيين الذين يتمتعون بالكفاءة لتطوير هذه الرؤية وتنفيذها، وعدم تعيين أصدقائه في مناصب الدولة.
3- التركيز على مجموعة قليلة من الأهداف الرئيسية، وعدم تقديم قائمة طويلة من الأهداف التي لا يستطيع تحقيقها.
4- أن يفهم الرئيس الواقع وعملية صنع القرارات، وأن يكون قادرًا على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب.
5- أن يختار في فريقه الرجال والنساء الذين لا يكتفون بأن يقولوا له “نعم” ويؤيدوا قراراته، ويجب أن يختار الأشخاص الذين يتمتعون بالشجاعة ومواجهته بالحقائق. فهؤلاء الأشخاص هم الذين يمكن أن يساهموا في تحقيق رؤيته وتطويرها.
ويشير سيجيل إلى أن الرئيس الأمريكي بوش افتقد القدرة على اختيار أشخاص يتمتعون بالشجاعة، ويستطيعون معارضة قراراته. وكانت قوته الشخصية الحاسمة في قراراته من العوامل التي أدت إلى ضعف مستشاريه وخوفهم من معارضته.
القيادة والقدرة على الاختيار
من أهم العوامل التي يمكن أن تؤهل الرئيس ليصبح قائدًا القدرة على اختيار الوزراء والمستشارين، والمعيار الذي يعتمد عليه القائد في هذا الاختيار هو أن المسؤولية خدمة عامة، وأن أعضاء الحكومة ومساعدي الرئيس يجب أن يعملوا للحصول على الثقة العامة، بإثبات قدرتهم على خدمة الشعب.
كما أن الرئيس يجب أن يعرف وظيفة كل شخص يعينه في منصب، وحدود دور هذا الشخص واستخدامه لمنصبه في تحقيق الأهداف العامة.
أمانة القائد وخطاب كينيدي!
يبرهن سيجيل على صحة النتائج التي توصل إليها بشخصية الرئيس كينيدي الذي ألقى خطابًا عبر قنوات التلفزيون بعد أزمه خليج الخنازير قال فيه: إن النجاح له ألف أب.. بينما يظل الفشل يتيمًا.. ولقد فشلت، ومن حقكم أن تلوموني!
يقول سيجيل: هل تعرفون ماذا حدث لشعبية الرئيس كينيدي؟!! لقد ارتفعت بشكل كبير. فالناس لا يتوقعون الكمال في القادة، لكنهم يتوقعون الأمانة.
كما استخدم سيجيل شخصية أبراهام لينكولن نموذجًا للرئيس القائد الذي امتلك رؤية قوية، وعمل لتحقيقها. فبالرغم من أنه يرفض العبودية فإنه لم يقم بإلغائها إلا بعد أن نجح في تحقيق الاتحاد بين الولايات. كما أنه لم يتسامح فقط مع معارضيه، بل قام بتعيينهم في حكومته.
الرئيس والقيادة الأخلاقية!
جذبت قضية التمييز بين الرئيس والقائد باحثًا آخر هو أروين هارجروف أستاذ العلوم السياسية بجامعة كانساس الذي طرح سؤالًا جديدا هو: كيف يمكن أن يجمع الرئيس بكفاءة بين فنون السياسة، والقيادة الأخلاقية والمعرفية والفكرية؟!
يقول هارجروف: إن القيادة المؤثرة هي التي تتمكن من تحقيق التوازن بين الالتزام بالمصلحة العامة والقدرة على الفعل السياسي.. وإن القيادة السياسية لا بد أن تقوم على عناصر أخلاقية ومعنوية.. لذلك فإن الرئيس الذي يريد أن يكون قائدًا يجب أن يلتزم بمجموعة من المبادئ والقيم.
في ضوء ذلك قام هارجروف بتقييم ثلاثة من الرؤساء الأمريكيين هم فرانكلين روزفلت وليندون جونسون ورونالد ريغان.
وكان من أهم نتائج تقييمه أن المهارات والقدرات والكفاءة لا تحول الرئيس إلى قائد إلا إذا توفر فيه الإحساس بالقيم والمبادئ الأخلاقية، والتزم بإعلام شعبه بالحقائق.
القيادة الثقافية وشخصية الرئيس
في ضوء ذلك قدم هارجروف مفهومًا جديدًا هو ”القيادة الثقافية”، حيث يمكن أن يكون القائد مصدر إلهام لشعبه عندما يتمكن من التعبير بكفاءة عن ثقافة الدولة، وتوظيفها لزيادة قوتها، وتحقيق الأهداف.
لذلك فإن الثقافة تشكل أساسًا للربط بين الرئاسة والقيادة، والالتزام بالمبادئ والقيم الناتجة عن ثقافة الدولة وتاريخها وتجاربها وكفاحها.
القدرة على الإقناع
يقول جورج إدواردز أستاذ الدراسات الرئاسية بجامعة تكساس: إن قدرة الرئيس على الإقناع تساهم في التغلب على العقبات ومواجهة التحديات، كما أوضحت دراساته أن الغرور والجهل يقلل فرص الرؤساء في التحول إلى قادة.
لذلك يجب أن يستثمر الرئيس قدراته في إقناع شعبه بالمبادرات والقرارات التي يتخذها.. كما يجب أن تقوم حكومته بالعمل لإقناع الشعب، وعدم استخدام القهر والقوة الغاشمة في إجبار الشعب على تقبل قرارات لا تتناسب مع الظروف التي يمر بها.
وترتبط القدرة على الإقناع بالديمقراطية، فالرئيس يدرك أنه سيتقدم بعد فترة لانتخابات جديدة يعمل فيها لإقناع الشعب بإعادة انتخابه، كما أن القهر واستخدام القوة يرتبط بالدكتاتورية.
وفي النظام الديمقراطي يمكن أن يتحول الرئيس إلى قائد، فهو يحاول دائمًا التأثير في الرأي العام، ومخاطبة الجمهور.
لذلك يجب أن يكون الرئيس قائما عظيما بالاتصال ليتمكن من التحول إلى قائد، وهذا يعني القدرة على صياغة الخطاب السياسي الذي يكسب به العقول والأرواح.
ومعنى ذلك أن مهارات الاتصال بالجماهير والإقناع واستخدام اللغة في صياغة الخطاب السياسي، من أهم المؤهلات التي تساهم في تحويل الرئيس إلى قائد يلهم شعبه ويؤثر فيه.
القيادة الرئاسية والتغيير!
إن أهم العقبات التي تحول دون تحول الرئيس إلى قائد الحرص على الاستقرار، وعدم القدرة على قيادة التغيير. فالدول التي تحرص على استمرارية الوضع الراهن والخضوع للواقع لا تستطيع أن تحقق التقدم أو أن تبني المستقبل.
إن الرئيس الذي يحرص على الاستقرار لا يستطيع أن يكون قائدًا للتغيير، وبقدر ما يكون التغيير مخيفًا ويحمل الكثير من المخاطر، فإنه يحمل الفرص وإمكانيات التطوير والإبداع والابتكار وبناء المستقبل.
وبدون أن يمتلك الرئيس رؤية للتغيير فإنه لا يمكن أن يتحول إلى قائد، فهناك علاقة قوية بين القيادة والتغيير.
لكن التغيير يجب أن يستند على التجارب التاريخية والإنجازات الحضارية وتحفيز الشعب لتحقيق الاستقلال الشامل، واستثمار موارد الدولة طبقًا لاستراتيجيات طويلة المدى.
السياق السياسي العالمي
هناك أيضا جوانب جديدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار ونحن نحاول بناء نظرية جديدة للربط بين الرئاسة والقيادة، وهي أن السياق السياسي العالمي يمكن أن يقلل قدرة الرئيس على التحول إلى قائد للتغيير.
لذلك فإن تقييم قدرات الرؤساء يجب أن يتم في إطار دراسة السياق العالمي والمحلي، فالرئيس يمكن أن يتمتع بقدرات ومميزات عالية لكنه لا يستطيع اتخاذ القرارات الحاسمة التي تلهم شعبه خلال فترة معينة، وفي مواجهة تحديات تقلل قدرته على الحكم وإدارة مؤسسات الدولة، مثل وجود منظومة من القوانين تمنعه من قيادة التغيير، أو سيطرة إحدى مؤسسات الدولة على شؤون الحكم.
عدم ثقة الشعب في الرئيس
إن الرئيس الذي يدير حركة السلطة التنفيذية، هو المسؤول عن أعمالها، وهناك ملاحظة هامة هي أن الشعوب لا تثق في السلطة التنفيذية، ولا في الأشخاص الذين يحتلون المناصب فيها. ونتيجة لبيروقراطية هذه السلطة فإنها لا تلبي تطلعات الشعوب. وكثيرًا ما تكون توقعات الشعوب أكبر من قدرة هذه السلطة.
إن الشكوك تحيط دائمًا بأعضاء الحكومات، وكثيرًا ما يرتكب الوزراء الأخطاء، أو يتخذون قرارات لا تتناسب مع آمال الشعب، وهذا يشكل عقبة أمام تحول الرئيس إلى قائد.
لكن خطاب الرئيس عندما يتميز بالشفافية، وإطلاع الشعب على الحقائق يمكن أن يساهم في زيادة قدرته على الحصول على ثقة الشعب التي تقوم على المعرفة.
تاريخ الرئيس وثقافته
إن تاريخ حياة الرئيس يلعب دورًا مهمًّا في اكتشاف فرص تحوله إلى قائد لشعبه، فهناك الكثير من الأعمال التي يرتكبها الشخص في حياته يمكن أن تقلل ثقة الشعب فيه.
كما أن الغموض في حياة الشخص يمكن أن يزيد الشكوك ويقلل التأثير.
لذلك فإن الرئيس الذي يمكن أن يتحول إلى قائد، يجب أن يتميز تاريخه بالكفاح لتحقيق أهداف عظيمة.
كما أن ثقافة الرئيس، والكتب التي قرأها في حياته، والتعليم الذي حصل عليه تساهم في بناء رؤيته للمستقبل والمشروع الحضاري الذي يقدمه لشعبه.
وإذا كان من أهم مسؤوليات الرئيس القائد أن يروي قصة كفاح شعبه، ويوضح للعالم الإنجازات الحضارية لدولته وأمته، فإنه من الضروري أن يكون قادرًا على أن يروي لشعبه قصة حياته، وأن يكون صادقًا في روايتها. فالقائد يجب أن يكون صاحب تاريخ، ورؤيته لا بد أن تكون نابعة من تجربة كفاح تتميز بالثراء.
إن الرئيس الذي يصل إلى المنصب فجأة لا يمكن أن يصبح قائدًا. فتجاربه التاريخية وعلمه وثقافته ودفاعه عن المبادئ، والتزامه بالقيم والأخلاق، يمكن أن تؤهله ليصبح قائدً قبل أن يكون رئيسًا.
والشعوب تحتاج إلى أن تفكر طويلا في شخصية من تنتخبه رئيسًا، ومن حقها أن تعرف تاريخه لتعرف هل يمكن أن يصبح قائدًا؟!
فالرئيس الذي يمكن أن يصبح قائدًا يمكن أن يحقق التغيير والتقدم ويلتزم بالمبادئ والقيم ويلهم الشعب لتحقيق الاستقلال الشامل.