هل نصوص الوحي تندرج تحت مفهوم “التراث الإسلامي”؟

محمد أركون

 

لا توجدُ أمّةٌ في الأرض إلّا وتستندُ في حاضرها على الجذور المتأصلة في ماضيها، وتعدّها مرجعيّةً مؤسِّسةً لحضارتها القائمة والقادمة.

وهذه المرجعيّة المؤسِّسة هي التي اصطُلح على تسميتها “التّراث”، فهو -إذَن- ما سطرته ذاكرة أمّة من الأمم من النّشاط الإنساني الشّامل فيها على مدىً زمنيّ طويل.

وعندما يُطلَق مصطلح “التّراث الإسلامي” يقع التباسٌ كبيرٌ في اندراج نصوص الوحي وهي القرآن الكريم والسنّة النبويّة ضمن هذا المصطلح، فهل القرآن الكريم والسّنة النبويّة جزءٌ من “التراث الإسلامي”؟

عندنا اتّجاهان في اعتبار القرآن الكريم والسّنّة النبويّة جزءًا من التّراث الإسلامي على النّحو الآتي:

الاتّجاه الأوّل: اعتبار القرآن الكريم والسنّة النبويّة جزءًا أصيلًا من التّراث الإسلاميّ

وقد قال بهذا فريقان متناقضان في الفكر ومتناقضان في مآل هذا القول، وهما “الماضويوّن” من الإسلاميّين و”الحداثيّون” من الإسلاميّين والعلمانيّين.

يقول الشّيخ عبد العزيز بن باز:

“لا شكّ أن التّراث الإسلامي أمره مهمّ والعناية به واجبة، وعلى رأس هذا التّراث كتاب الله عزّ وجل، وسنّة رسوله محمد عليه الصّلاة والسّلام، فهما أعظم تراث وأفضل تراث وأنفع تراث، وهما أصل دين الإسلام وأساسه، خلّفهما لنا رسولنا ونبينّا وإمامنا محمّد بن عبد الله عليه من ربّه أفضل الصّلاة والتّسليم، والله يقول في كتابه العظيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر: 32).

وعلى رأس المصطفين رسوله الكريم عليه أفضل الصّلاة والسّلام ثم صحابته الكرام ثم أتباعهم بإحسان، جعلنا الله وإيّاكم من أتباعهم بإحسان.

فكتاب الله هو أعظم التّراث وأفضل التّراث وأصدقه، فيه الهدى والنور، فيه الدّلالة على كلّ خير والتّحذير من كلّ شرّ، فيه الدّعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتّحذير من سيّئ الأخلاق وسيّئ الأعمال”.

وفي الاتّجاه المقابل، يطلق محمّد أركون في كتابه (الفكر الإسلامي؛ قراءة علميّة) ما سمّاه “السّيرورة الاجتماعيّة لتشكّل التّراث” على العناصر التكوينيّة التي يتشكّل منها الإسلام، وهي حسب رأيه:

“النّصّ القرآني، ومجموعة نصوص الحديث والتّشريع، والفرائض القانونيّة الخمس والشّعائر اللازمة لتأديتها، والدّينامو الرّوحي المشترك لدى كلّ المؤمنين، الذي يشكّل خاصيّة مميّزة للتّراث”.

كلا هذين الطرفين من “الماضويّين” و”الحداثيّين” يعدّ نصوص الوحي؛ القرآن الكريم والحديث النبويّ، جزءًا من التّراث الإسلامي، غير أنّ الأثر المترتّب على هذا الاعتبار متناقض عند الطرفين.

فالماضويوّن من الإسلاميّين الذين يرون القرآن الكريم والحديث النّبويّ جزءًا من التّراث الإسلامي سحبوا قداسة الوحي على عموم نصوص التراث، فصاروا يتعاملون مع عموم نصوص التراث الأخرى بدرجة عالية من التّقديس والغلوّ في منع الاقتراب، واتّهام أيّ محاولة لتنقية التراث بأنّها جزء من الحرب على الديّن والوحي، فهؤلاء عندهم دخولُ المقدّس على التّراث أضفى عليه الكثيرَ من صفة القداسة.

بينما الحداثيّون سحبوا عدم قداسة نصوص التراث العاديّة على نصوص الوحي، فالقرآن الكريم والسنّة النبويّة عندهم جزءٌ من التراث غير المقدّس، فهم يريدون معاملة نصوص الوحي؛ قرآنًا وسنة، بمثل ما يعاملون به النّصوص التراثية الأخرى؛ متأثرين بالتّجربة الغربية في قراءتِها نصوصَها الدّينية وتراثَها عمومًا، دون أدنى مراعاةٍ للفوارق المفصلية الأساسية بين مفاهيم الوحي والدّين ومآلاتهما في التجربتين الإسلاميّة والغربيّة، فهم يحاولون تطبيق قواعد تأويل الكتاب المقدس في التّجربة الأوربية خصوصًا في فترة الحداثة وما بعد الحداثة على التّراث العربي الإسلامي، ومنه القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، وهؤلاء عندهم دخولُ التّراث غير المقدّس على الوحي المقدّس نزع عنه وصف القداسة.

الاتّجاه الثّاني: رفض اعتبار نصوص الوحي جزءًا من التّراث الإسلامي

وعلى هذا الاتّجاه الغالبيّة الكبرى من أصحاب التوجّه الإسلامي من العلماء والمفكّرين والباحثين، فهم مع عدم دمج الوحي بالتراث، ويعدّونه مفارقًا ومغايرًا له؛ لأن التّراث في اعتقادهم هو إنجازٌ إنسانيّ خالص، وجهدٌ بشريّ، أي أنّه من صنف الإبداعات الإنسانيّة التي يكون الإنسان فيها هو الصّانع، وهو السّلف المورِّث للخلف الآتي بعده، فلا مدخلَ للأمور الإلهيّة في دائرة التراث.

وهؤلاء عندهم حريّةٌ في إخضاع نصوص التراث للتّنقية والتّصفية مع تجنيب نصوص الوحي المقدّسة هذا السّلوك الذي ينطوي على الكثيرِ من العبث الفكريّ.

فحدود المقدّس عندهم واضحة، تنطبق فقط على القرآن الكريم والسنّة النبويّة الثّابتة، فلا ينسحب هذا إلى تقديس التراث غير المقدّس، ولا يؤثّر عدم تقديس التراث عندهم على نظرتهم المقدّسة لنصوص الوحي من القرآن الكريم والسنّة النبويّة.

وقد وصف الدّكتور الفلسطينيّ الأردنيّ المتخصّص في الفلسفة بجامعة السّوربون فهمي جدعان في كتابه (نظريّة التراث) العلاقة بين “التراث” و”المقدّس” أنّها علاقةٌ مصطنعة تمامًا، ويؤكّد أنّ وجودَ عددٍ من علوم الشريعة كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم أصول الدّين أدت إلى توهّم دخول الوحي تحت مسمّى التراث، ويفنّد ذلك قائلًا:

“والحقيقة هي أنّ هذا التّوهّم هو مجرّد وهم، لأنّ القرآن ليسَ هو علوم القرآن، ولأنّ علم أصول الدّين أو الفقه أو أصول الفقه ليست هي الدّين نفسه، فهذه العلوم جميعًا -لا استثناءَ لواحدٍ منها- هي “كلامٌ” تاريخيّ على الدّين، وعلى الوحي، وهي بهذا الاعتبار تاريخيّةٌ إنسانيّة، أمّا الوحي نفسه فهو الإلهيّ وهو المجاوز للتّاريخ، تلك العلوم تراث، أمّا الوحي فليسَ بتراث، وبهذا يندفع الوهم والإيهام”.

فالأصل في نصوص الوحي أن لا تكون جزءًا ممّا يُطلَق عليه مصطلح “التّراث الإسلاميّ” عند الحديث عن هذا التّراث، ولا بدّ من العمل على تعزيز هذا في الأوساط الفكريّة والبحثيّة المختلفة.

كما أنّ إدراك هذا الالتباس يفيد بشكلٍ كبيرٍ في فهم الأرضيّة التي يقف عليها المتحدثون عن التراث بمختلف توجهاتهم الفكريّة، وهو نقطة انطلاقٍ مركزيّةٍ في حواراتٍ منهجيّة بعيدةٍ عن حوار الطرشان الذي غدت تصطبغ به الكثيرِ من الحوارات المعاصرة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان