حرائق الكنائس وإشارات البابا تواضروس

شهدت مصر حرائق متباينة الشدة، على مدار الأيام القليلة الماضية.. البداية والأكثر إيلاما ووجعا، كانت كارثة الحريق الذي شب في كنيسة “أبو سيفين” بمنطقة مطار إمبابة بمحافظة الجيزة، أثناء “قُداس الأحد”، والذي أسفر عن مصرع 42 شخصا بينهم 18 طفلا في أعمار الزهور، وكاهن الكنيسة الذي استمر في الصلاة رغم الدخان الكثيف، وإصابة 15 آخرين.

الكارثة خلفت وراءها طائفة من المآسي الإنسانية المفجعة، التي تفطر القلب، فهناك أُسر فقدت عائلها، أو أفرادا منها، أو أطفالا، وهناك سيدات ترملن، وأطفال تيتموا أما أو أبا أوكليهما.

تكييف كارفور.. وحرائق الصيف

الحريق اندلع نتيجة انفجار مولد كهربائي، حيث كان قد تم تشغيل المولد بديلا لانقطاع الكهرباء، فلما عاد التيار الكهربائي انفجر المولد، وسبق الانفجار انبعاث دخان كثيف فترة غير قليلة، مما تسبب في وفاة الكثيرين “اختناقا”، حسب إفادة للنيابة العامة بعد معاينة “الجثامين” في موقع الحادث. هذه الحرائق امتدت إلى عموم البلاد، شمالا وجنوبا، وجميعها -عدا كنيسة أبوسيفين- محدودة الحجم والخسائر البشرية، وشملت 4 كنائس بمناطق متفرقة، ومولا تجاريا كبيرا (كافور)، بمحافظة الإسكندرية في شمال البلاد، بسبب التكييف المركزي، ومنشآت مختلفة.

وفقًا لبيانات أجهزة التحقيق، فإن “التماس الكهربائي”، هو المتهم الأول في الحرائق المُشار إليها.. معلوم أن هذا النوع من الحرائق، يتكرر سنويا، ويزادا صيفا. وكان يمكن أن لا تشيع حوادثه لولا أن كارثة كنيسة أبوسيفين، كانت مدوية لفداحة الخسائر البشرية، وانتشار الخبر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل “تقاعس” وسائل الإعلام عن متابعة الحادث في البداية (إهمالا، أو امتناعا جبريا في الغالب).

 52 ألف حريق سنويا.. والتّماس والشرر الاحتكاكي

جهاز التعبئة والإحصاء الحكومي، أعلن في مارس/آذار الماضي تقريرا سنويا يتبين منه أن عدد “حـوادث الحريق” عام 2021 في عموم البلاد بلغ 51 ألفا و533 حادثة، نتجت عنها 252 وفاة و824 إصابة، مقابل 51 ألفا و963 حادثة عـام 2020، و199 وفاة 878 إصابة.

تقرير جهاز التعبئة (لعام 2021)، سرد إحصائيا، أسبابا متعددة للحرائق بنسب متفاوتة، وكشف أن “التماس الكهربائي أو الشرر الاحتكاكي”، تسبب عام 2021، في اندلاع عشرة آلاف و863 حريقا، بنسبة 21.1%.. أما الحرائق الباقية فكانت لأسباب أخرى، منها “النيران الصناعية”، مثل الشماريخ وأعقاب السجائر، والإهمال، والاشتعال الذاتي، والتعمد بنسبة ضئيلة. لا غرابة إذن أن يقف التماس الكهربائي أو ما شابهه من مشكلات فنية متعلقة بالتيار وراء حرائق الكنائس وكارفور وغيرهما، فواقع الحال أن هذه التقارير عن الحرائق، لا تحظى باهتمام الأجهزة المعنية بالدراسة وتقصي التفاصيل، للخروج بإجراءات وحلول تمنع تكرارها.

جودة وسلامة التوصيلات الكهربائية.. وزيادة الأحمال

حرائق التماس الكهربائي عموما (نحو 11 ألف حريق سنويا)، تعني أن لدينا مشكلات فنية في جودة وسلامة وصلات وأدوات شبكات الكهرباء بالكنائس والمساجد والأماكن العامة المشابهة، وهناك تجاهل لصيانتها مما ينتج “التماس”، ومن ثم الحرائق. المعتاد توصيل التيار الكهربائي لمثل هذه الأماكن عند إنشائها وفقا لأحمال وقدرات كهربائية معينة.. ثم تحدث توسعات للمبنى أو زيادة الأحمال بأجهزة تكييف، وما شابهها، من دون تعديل الوصلات واستبدالها، وتركيب أسلاك أو كابلات قادرة على استيعاب “الأحمال الجديدة” التي لم تكن في الحسبان عند توصيل التيار أول مرة.

الواجب على أجهزة المحليات وشركات الكهرباء والمرافق بالعموم، والإدارات المختصة بالأمن الصناعي والحماية المدنية مراجعة جودة وسلامة توصيلات الكهرباء والغاز، لكافة المنشآت العامة دوريا، والتفتيش في أدوات ومعدات الإطفاء والتبريد، وإلزام كافة هذه المنشآت بتحديث مولدات الكهرباء، وتحويل القديمة منها للعمل آليا، مع توقف وانقطاع التيار الكهربائي.

هذا الحادث المُفزع يطرح قضية “إدارة الأزمات”.. بالصدفة استمعت عبر الإذاعة مؤخرا، إلى مسؤول إدارة الأزمات بجهة ما، يقول كلاما منمقا جاذبا ومُبهرا عن خطط التعامل مع “الأزمات الطارئة”، وتلافي الخسائر أو تقليلها. هذا الكلام الجميل، يتلاشى فعليًّا عند الاصطدام بالواقع وحدوث “أزمة مفاجئة”، فيكون الارتباك سيد الموقف في التعاطي مع جغرافية وضيق “مكان الأزمة”، أو كثافة الوجود البشري، وازدحام الشوارع (أبو سيفين مثالا)، مما يعرقل فاعلية عمليات الإنقاذ.

قراءة الدروس.. وعدم إغلاق الملف

بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الأنبا تواضروس الثاني، في مداخلة تلفزيونية له، مع الإعلامية أنجي القاضي على قناة “dmc” دعا المحليات إلى نقل الكنائس إلى أماكن أوسع، في إشارة إلى قابلية الحادث للتكرار، وزيادة الخسائر، نتيجة الازدحام وضيق المساحة، كما في “أبو سيفين” (120 مترا تقريبا، بها حضانة أطفال).

علينا، قراءة دروس هذه الحوادث جيدا، فلا يجوز إغلاق الملف بانتهاء الحادث ودفن الضحايا، وعلاج المصابين.. المُفترض أن تهتم المحليات باستيعاب الدروس، وإحصائيات الحرائق بأنواعها، والتحرك سريعا لمداواة كل الحالات المشابهة. ينبغي الانتباه لدعوة البابا تواضروس الثاني، ببحث سُبل تسهيل وصول الحماية المدنية في الوقت الملائم، وكذا دعوته إلى نقل الكنائس، وتعميمها لتشمل المنشآت العامة، التي قد تكون مُرشحة لحوادث مشابهة، بنقلها إلى خارج المناطق العشوائية أو الضيقة، تجنبا لما لا تُحمد عقباه، إذ لا يجوز الانتظار لوقوع كارثة جديدة ثم نستيقظ لنتلاوم، وبعد مرور الأزمة، يمضي كلٌّ إلى حاله، كأن كارثة لم تقع. رحم الله ضحايا حريق كنيسة أبوسيفين، وألهم ذويهم الصبر وأنزل السكينة على قلوبهم، وشفى المصابين وعافاهم.

نسأل الله السلامة لمصر.

المصدر : الجزيرة مباشر