المسكوت عنه في المصالحة بين المعارضة السورية والأسد

وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو

ما أن أعلن وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو تصريحه حول ضرورة السعي لعمل مصالحة بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد حتى انفجرت ماسورة من الاحتجاجات والتصريحات والهتافات الرافضة لهذا التوجه، والاتهامات لتركيا بالتخلي عن ثوابت سياستها الخاصة بالملف السوري، سعيا لتحقيق مصالحها على حساب حياة الأبرياء من السوريين.

وبدأ المحتجّون العزف على وتر وحشية النظام، وحجم ما قدمه الشعب السوري من تضحيات، وما سال منه من دماء، وأعداد ما فقده من شهداء، معلنين رفضا قاطعا لأي خطوة من شأنها أن تضع رقاب الشعب السوري تحت مقصلة النظام الدكتاتوري القابع في دمشق.

ولا يمكن لأحد إنكار حجم المعاناة التي يعيشها السوريون في الداخل، الذين يقبعون تحت رحمة النظام السوري، وفي متناول قبضته الأمنية، أو تلك الأزمة التي يعيش تفاصيلها كل دقيقة هؤلاء الذين يقيمون في المخيمات، يلتحفون السماء، ويعانون برد الشتاء وعواصفه وأمطاره وثلوجه، ويواجهون الصيف بشمسه الحارقة وحرارته الملتهبة، ويلاقون الويلات من أجل تأمين لقمة عيش لهم ولأسرهم، حياة تفتقر في مجملها لأبسط مقومات الإنسانية.

الحقائق المرتبطة بالموقف التركي التي يتم تجاهلها عمدا

الجدل القائم اليوم حول مسألة المصالحة مع النظام السوري، واتهام تركيا بالبحث عن مصالحها السياسية يتجاهل عن عمدا حقائق مرتبطة بهذه القضية، لا يريد البعض الحديث عنها أو الخوض فيها، بل ويسعون بكل قوتهم للتشويش عليها، وطمسها لتحقيق مصالح شخصية ضيقة لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بمعاناة السوريين أو قضيتهم.

أولى هذه الحقائق التي لا ينكرها إلا جاحد، أن تركيا وقفت إلى جانب السوريين وفتحت لهم أبواب الحياة بها على مصراعيها، ومنحت جنسيتها لأكثر من 125 ألفا منهم، ووفرت لهم حق الإقامة وتعليم أبنائهم في مدارسها وجامعاتها، والعلاج في مستشفياتها، وتركت المجال رحبا أمام من يريد منهم العمل وكسب رزقه بيده، أو إقامة مشروعه الخاص.

صحيح أنه حدثت تجاوزات من جانب البعض إلا أن السوريين في المجمل عاشوا على مدى أحد عشر عاما في تركيا مثل المواطنين الأتراك، وهي معاملة لم تحظ بها أي جالية عربية أخرى في تركيا.

المعارضة السورية وتباين مواقفها وتفرقها وتأثير هذا في القضية

هذا فضلا عن أنه منذ اندلاع الثورة السورية، والحكومة التركية تقدم دعما لوجستيا وعسكريا لقوات المعارضة السورية المسلحة، وتمد الجيش الوطني السوري بكل ما يحتاج إليه بهدف تطهير جزء من أراضيه، لتوفير ملاذ آمن للاجئين السوريين الفارين من هجمات الجيش العربي السوري والطيران الروسي، وتغيير الوضع على الأرض لصالحه حتى ينطلق من قاعدة راسخة في تفاوضه مع النظام حينما يحين الوقت، لكن المعارضة السورية لم تستطع تحقيق أي إنجازات على أرض الواقع، فحتى تلك الأراضي التي فرضت سيطرتها عليها سابقا في الشمال السوري خسرتها أمام هجمات وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من واشنطن، ولم يعد تحت سيطرتها إلا هذا الشريط في المنطقة الشمالية الغربية القريبة من الحدود التركية وهو آخر معقل لها، مع توزع السيطرة هناك بين جماعات متشددة ومقاتلين آخرين تدعمهم تركيا.

بل تباينت مواقفها، وتفرقت سبلها، وأصبح واضحا لكل ذي عينين أن هناك مصالح شخصية ضيقة تحكم بعض رموز هذه المعارضة، التي يتبادل أطرافها الاتهامات بالخيانة والعمالة، وذلك وفق مواقف الدولة الممولة لهذا الفصيل أو ذاك، حتى وإن تعارض هذا الموقف مع مصالح الشعب السوري نفسه الذي تعلن المعارضة أنها تدافع عن مصالحه.

آخر هذه الخلافات والاختلافات ما ظهر في مواقفهم من تصريحات وزير الخارجية التركي، التي كشفت حجم الاختلاف والتعارض بينهم، فذهب البعض إلى إعلان رفضه التام لها، وثباته على موقفه الرافض للتحاور أو التصالح مع بشار الأسد، بينما تبنى فصيل آخر الدعوة إلى ضرورة الحفاظ على علاقات ودية مع تركيا، وشرح وجهة النظر السورية لها بخصوص دعوات المصالحة، والتحاور معها وتفهم أسباب تغير مواقفها، وحاول فصيل ثالث بث الطمأنينة في النفوس من خلال تأكيده على تواصله مع القيادة التركية التي أكدت التزامها بقرار الأمم المتحدة 2254، وبالحل السياسي للقضية السورية.

التطورات الإقليمية والدولية وتأثيراتها في قرار تركيا بالتواصل مع الأسد

التطورات الإقليمية تلعب هي الأخرى دورا مهما في موقف تركيا، وتوجهها نحو التواصل مع النظام السوري، فالجامعة العربية تستعد لعقد قمتها بالجزائر مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وعلى جدول أعمالها إعادة سوريا إلى مقعدها بالجامعة، وهو التوجه الذي تدعمه كل من مصر، والإمارات العربية المتحدة، والأردن، والعراق، وسلطنة عمان، ولبنان، والجزائر، والكويت، والبحرين، وموريتانيا، الأمر الذي يبدو أنه شجع تركيا على مراجعة مواقفها، حتى تتماهى مع مواقف الدول العربية على وجه العموم.

كما أن هذا التوجه من شأنه التعجيل بعودة علاقاتها مع القاهرة، حيث تطالب الأخيرة بخروج القوات التركية من الأراضي السورية كأحد شروط المصالحة معها، ومن هنا تبدو أهمية التحاور مع نظام بشار الأسد لإيجاد حل يرضي جميع الأطراف، وينهي هذه المأساة التي طال أمدها، ويدفع ثمنها هؤلاء القابعون في المخيمات وفي الداخل السوري، وفي نفس الوقت يخدم مصالح تركيا ويحقق أهدافها.

أما على الجانب الدولي فكل من موسكو وطهران تسعيان منذ مدة ليست بالقليلة لحث تركيا على التحاور مع الأسد من أجل تحقيق مصالحها، التي من أهمها حماية أمنها القومي، عبر ضمان عدم قيام كيان كردي في الشمال السوري، منفصل عن الحكومة المركزية في دمشق، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال المصالحة مع النظام، إلى جانب ضمان حصتها في كعكة تعمير سوريا، الذي وعد به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أردوغان في لقائهما الأخير بمنتجع سوتشي.

الداخل التركي وانتخابات 2023 الحاسمة والبحث عن حل دائم لجميع المشاكل

وفيما يخص الداخل التركي فليس خافيا على أحد أن محاولات الحكومة التركية حلحلة الوضع السوري بأي طريقة ممكنة هدفه الوحيد إزاحة عبء الملف السوري عن كاهلها، خصوصا أن أحزاب المعارضة دأبت على توظيفه ضدها في كل استحقاق انتخابي مرت به البلاد، حتى تفاقم الوضع وانتشرت حالة من العدائية والكراهية بين الأتراك والأجانب، وأصبحت العنصرية عنوان التعامل مع كل ما هو شرق أوسطي في تركيا، الأمر الذي يسبب الكثير من المشاكل التي أصبحت تحدث بصورة شبه يومية.

ومن هنا يمكن فهم التصريح الذي أدلى به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية الشريك في الائتلاف الحكومي، الذي أيد فيه تصريحات وزير الخارجية، مؤكدا أنها تتصف بالواقعية والمنطق، وأن إحلال السلام بين المعارضة السورية ونظام الأسد يأتي في إطار البحث عن حل دائم، وهو توجه يجب ألا يزعج أحدا، مشددا على أن لديهم رغبة صادقة في إقرار السلام والاستقرار مع جميع جيرانهم حتى عام 2023، “فما تخبرنا به الجغرافيا الواسعة التي نعيش في رحابها أن الحياة بالاحتضان وليست بالقتال” على حد تعبيره.

كلمات بهشلي تشير دون مواربة إلى أن تركيا ستمضي قدما في طريق التفاوض مع نظام بشار الأسد شاء من شاء وأبى من أبى، بعد أن أمضت أحد عشر عاما تعارضه وتقف ضده بحزم من دون أن تحقق ما سعت إليه، فلم لا تجرب التفاوض معه في هذه المرحلة الحساسة بالنسبة إليها، فربما تستطيع أن تجني من الحوار معه ما لم تجنه من عدائها له!؟

المصدر : الجزيرة مباشر