الاستراتيجية الأمريكية: عقدان من التحولات (7)

شكلت فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب (2017 ـ 2020) فترة استثنائية في تاريخ الإدارات الأمريكية من منظور سماته الشخصية ونمط حكمه وكيفية تعامله مع الحلفاء والأصدقاء والشركاء والمنظمات الدولية التي تمثل الولايات المتحدة عضوا فاعلاً فيها، وكذلك من منظور مواقفه من الاتفاقيات الدولية، إلا أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي اعتمدتها إدارته في عام 2018، شكلت امتداداً بل وتطبيقاً عملياً لاستراتيجية الأمن القومي التي أقرتها إدارة سلفه الجمهوري الرئيس جورج دبليو بوش عام 2002، والتي كانت شديدة التطرف في التعاطي مع القضايا والأطراف والمعطيات الدولية.
ركائز استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2018
انطقت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية في ديباجتها من عدد من الركائز الأساسية، حيث جاء في بداية نصها الرسمي “اليوم، نحن نخرج من فترة من الضعف على المستوى الاستراتيجي، وندرك أن ميزة التفوق العسكري لدى قواتنا قد بدأت في التآكل، إننا في الحقيقة نواجه اضطراباً عالمياً متزايداً، يتسم بتراجع في قواعد النظام الدولي الذي ظل مهيمناً منذ أمد بعيد، مما أدى إلى خلق بيئة أمنية أكثر تعقيداً وتقلباً عن أي بيئة شهدناها من قبل. إن التنافس الاستراتيجي بين الدول، وليس الإرهاب، هو الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي للولايات المتحدة”
وأضافت: “الصين، وهي منافس استراتيجي للولايات المتحدة، تستخدم الاقتصاد بطريقة عدوانية متوحشة من أجل تخويف جيرانها بينما يقومون في الوقت نفسه بعسكرة الأوضاع في بحر الصين الجنوبي. أما روسيا فقد انتهكت حدود الدول المجاورة لها ودأبت على استخدام حق الفيتو على القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية الخاصة بجيرانها. وكذلك تستمر كوريا الشمالية في ممارسة أنشطتها الخارجة عن القانون وتتبنى خطاب طائشاً على الرغم من استهجان الأمم المتحدة لممارساتها وفرضها عقوبات عليها. ولا تزال إيران تغذي العنف في المنطقة وتمثل التحدي الأكبر لاستقرار الشرق الأوسط. وبالرغم من هزيمة “الخلافة” التي أسستها داعش على المستوى المادي، فلا تزال هناك تهديدات للاستقرار في ظل استمرار الجماعات الإرهابية ذات اليد الطولى في قتل الأبرياء وتهديد السلام على نطاق أوسع”.
ومن خلال هذا النص نجد الاستراتيجية، تؤكد على الأعداء الاستراتيجيين للولايات المتحدة الأمريكية، وجاءت الأسماء وفق ترتيبها: الصين، روسيا، كوريا الشمالية، إيران، داعش، وهو ما يعكس أولويات المواجهة في التعاطي مع التهديدات وفق المنظور الأمريكي، حيث أعطت الوزن الأكبر للصين وروسيا، بينما تراجع خطر الإرهاب (ممثلاً في داعش) إلى المرتبة الرابعة، وهو ما يعني إعادة ترتيب للتوجهات والأولويات التي تقوم عليها الاستراتيجية.
إستراتيجية 2018 للتنافس والردع ومفاهيم “القوة” و”الفتك” و”المرونة”
ذكرت الاستراتيجية “إن عودة ظهور المنافسة الاستراتيجية على المدى البعيد، والانتشار السريع للتكنولوجيات، والمفاهيم الجديدة للحرب والمنافسة التي تحكم بشكل كبير الصراعات الموجودة – كل ذلك يتطلب وجود قوة مشتركة تكون قادرة على التعامل مع هذا الواقع”
وأضافت: إن وجود هذه القوة المشتركة الأكثر فتكاً ومرونة وسرعة في الابتكار، إلى جانب مجموعة قوية من الحلفاء والشركاء، ستضمن المحافظة على النفوذ الأمريكي وتحقيق توازنات للقوة تكون في نهاية المطاف لصالحنا، وتحافظ كذلك على النظام الدولي الحر والمفتوح. وسيوفر وضع قواتنا، وتحالفاتنا، وهيكل الشراكة التي نوفرها، وتحديث وزارة الدفاع، القدرات والحيوية اللازمة للسيطرة على النزاعات والحفاظ على السلام من خلال القوة”
وأكدت على أن عدم تنفيذ هذه الإستراتيجية بشكل واضح وحاسم إلى تقليل النفوذ العالمي للولايات المتحدة، وتآكل التماسك في صف الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وتقليل الوصول إلى الأسواق وانخفاض معدل الازدهار ومستوى المعيشة في الداخل الأمريكي.
تقر استراتيجية 2018 بوجود بيئة أمنية عالمية متزايدة التعقيد تتميز بالتحديات العلنية للنظام الدولي القائم
وفقاً للمنظور الاستراتيجي الأمريكي يتمثل التحدي الرئيسي أمام ازدهار الولايات المتحدة وأمنها في عودة ظهور المنافسة الاستراتيجية طويلة الأجل من خلال ما تصنفه استراتيجية الأمن القومي على أنها “قوى تطويرية” (قوى تعاود الظهور على ساحة القوة والنفوذ من جديد مثل روسيا والصين). وأن الصين وروسيا ترغبان في تشكيل عالم يتلاءم مع نموذجهما الاستبدادي – وتستخدمان حق النقض (الفيتو) لصالحهما على حساب القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية للدول الأخرى.
فالصين ـ وفق الاستراتيجية ـ تستفيد من التحديث العسكري، وأنشطة بسط النفوذ، والاقتصاد العدواني المتوحش لإجبار البلدان المجاورة على إعادة ترتيب منطقة المحيطين الهندي-الهادي لصالحها. ومع استمرار الصين في صعودها الاقتصادي والعسكري، وتأكيدها للقوة من خلال إستراتيجية شاملة طويلة الأجل، فإنها ستواصل السعي وراء برنامج للتحديث العسكري يسعى للهيمنة الإقليمية على منطقة المحيطين الهندي والهادي وذلك على المدى القريب على حساب الولايات المتحدة، من أجل تحقيق التفوق العالمي في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا ـ وفق الاستراتيجية ـ إلى استغلال حق النقض (الفيتو) من أجل فرض الهيمنة على الدول المجاورة في قراراتها الحكومية، والاقتصادية، والدبلوماسية؛ وكذلك من أجل تدمير حلف شمال الأطلسي؛ وتغيير الهياكل الأمنية والاقتصادية في أوربا والشرق الأوسط لصالحها. ونصت الاستراتيجية على أن استخدام روسيا للتكنولوجيات الناشئة لتشويه وتقويض العمليات الديمقراطية في جورجيا، وشبه جزيرة القرم، وشرق أوكرانيا، يكفي لأن يشكل مصدراً للقلق للولايات المتحدة؛ ولكن عندما يترافق ذلك مع التوسع والتحديث النووي، فإن التحدي يكون أكثر وضوحاً.
وبجانب الصين وروسيا، ذكرت الاستراتيجية على أن ما أسمتها “الأنظمة المارقة” مثل كوريا الشمالية وإيران تعملان على زعزعة الاستقرار في مناطقها من خلال السعي الدائم للحصول على أسلحة نووية أو من خلال رعاية الإرهاب. فكوريا الشمالية ـ وفق الاستراتيجية ـ تُريد ضمان بقاء نظام الحكم فيها وزيادة نفوذها ومن أجل ذلك تسعي لامتلاك مجموعة من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية والتقليدية وغير التقليدية ووتعزيز قدرتها الصاروخية بشكل متصاعد بهدف فرض نفوذها قسرياً على كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة. وفي الشرق الأوسط، تتنافس إيران مع جيرانها، وتحرص على إيجاد هلال (إيراني) من النفوذ وعدم الاستقرار بينما تطمح إلى الهيمنة على المنطقة من خلال استخدام أنشطة إرهابية ترعاها الدولة، وشبكة متنامية من الوكلاء، وبرنامج صاروخي متنامي، من أجل تحقيق أهدافها.
وتتنافس كل من القوى “التطويرية” و”الأنظمة المارقة” (مع النظام العالمي) على جميع أشكال القوة. فقد قامت تلك القوى بمضاعفة جهودها في سبيل توسيع ممارسات القهر ضد جيرانها بأشكال مستحدثة ليست بالضرورةً عن طريق الاستخدام المباشر للصراع المسل؛ فتقوم بانتهاك مبادئ السيادة، وتتعمد إخفاء الحدود الفاصلة بين الأهداف المدنية والعسكرية، مع تطبيق سياسة التمويه للتغطية على مواقفها.
التحديات التي تواجه التفوق العسكري الأمريكي وانعكاساتها على تحولات بيئة الأمن العالمية
أكدت الاستراتيجية إنه على مدى عقود من الزمن تمتعت الولايات المتحدة بتفوق وهيمنة غير مسبوقة في كل مجالات القوة العسكرية، حيث كان يمكنها نشر قواتها عندما تريد، ويمكنها تجميعها حيث تريد، والقيام بعملياتها العسكرية بالكيفية التي تريد. أما اليوم، فهناك تنافس معها في كل المجالات – جواً وبراً وبحراً، وعلى مستوى الفضاء السيبراني.
وأنها تواجه ساحة للمعارك أكثر فتكاً وإرباكاً، عبر كل هذه المجالات مجتمعة وبوتيرة متصاعدة وعلى نطاقات ممتدة – تبدأ من القتال عن قرب، مروراً بجميع أنحاء مسارح العمليات على مستوى العالم، ووصولاً إلى التحديات على أرض الوطن، حيث يسعى بعض المنافسين والخصوم إلى تطوير استهدافاتهم لشبكتها القتالية والمفاهيم التشغيلية؛ ويستخدمون كذلك مجالات أخرى من المنافسة ليست بالضرورة الإعلان المباشر للحرب من أجل تحقيق غاياتهم مثل استخدام حرب المعلومات، وسياسة الحرب بالوكالة، أو ممارسة التخريب. وإذا لم يتم التعامل مع هذه الاتجاهات جميعاً، فسوف تشكل تحدياً للقدرات الأمريكية على ردع العدوان.
تشكل المنافسة الاستراتيجية طويلة المدى مع الصين وروسيا الأولوية الرئيسية للاستراتيجية الأمريكية
في مواجهة هذه الأخطار وتلك التهديدات شملت أهداف استراتيجية الأمن القومي 2018، الدفاع عن الوطن ضد أي هجوم، ودعم التفوق العسكري للقوة الأمريكية المشتركة، سواء على مستوى العالم أو في المناطق الرئيسية للصراع، وردع الأعداء من القيام بأي عدوان على مصالحنا الحيوية، وتمكين النظراء داخل مختلف المؤسسات الأمريكية من تعزيز نفوذ ومصالح الولايات المتحدة، والحفاظ على توازنات إقليمية لصالح أمريكا في منطقة الهندي-الأطلسي وأوربا والشرق الأوسط ونصف الكرة الغربي، والدفاع عن الحلفاء من أي عدوان عسكري ودعم الشركاء ضد أي شكل من أشكال القسر، وتقاسم المسؤوليات عن الدفاع المشترك بشكل عادل.
وكذلك إعاقة أو منع أو ردع الدول المعادية والجهات الفاعلة غير التابعة للدول للحيلولة دون حصولها على أسلحة الدمار الشامل أو نشرها أو استخدامها، ومنع الإرهابيين من توجيه أو دعم العمليات الخارجية ضد أرض الوطن داخل الولايات المتحدة، أوضد مواطنينا وحلفائنا وشركائنا في الخارج، وإﻧﺷﺎء قاعدة الابتكار في مجال الأمن الوطني، بحيث لا يكون لها نظير ﻓﻲ اﻟﻘرن 21، حيث ﺗقوم بدﻋم العمليات التي تنفذها وزارة الدفاع وتضمن استمرار الأمن واﻟﻘدرة المالية.
وتحقيق هذه الأهداف يتطلب التكامل السلس للعناصر المتعددة للسلطة الوطنية – الدبلوماسية، والمعلوماتية، والاقتصادية، والمالية، والاستخباراتية، والجهات المخولة بإنفاذ القانون، والعسكرية، وتوسيع آليات التشاور والتخطيط التعاوني إقليمياً ودولياً، وتعميق قابلية العمل البيني، وتوسيع التحالفات والشراكات في منطقة الهندي- الهادي، ودعم حلف الناتو، وتشكيل تحالفات دائمة في الشرق الأوسط، واستدامة التفوق في نصف الكرة الغربي، ودعم العلاقات لمواجهة التهديدات الإرهابية الكبيرة في أفريقيا.
لا تراجع ولا تهاون ولكن إعادة تموضع وإعادة ترتيب للأولويات
ومن هذه النصوص وغيرها، التي تضمنتها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2018، ومع اختلاف نمط القيادة السياسية الذي شكله دونالد ترمب، فإن الاستراتيجية تعكس الرؤية الأمريكية للعالم، وللنسق الدولي والأنساق الإقليمية، وبغض النظر عند مدى النجاح أو الفشل في تحقيق الأهداف التي أعلنتها الاستراتيجية، فإنها كانت امتداداً واستمراراً للنهج الإمبراطوري الأمريكي الذي تم التأكيد عليه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991، وفي استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2002، بما يرسخ فكرة الثبات والاستمرارية في استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية، مع إعادة ترتيب الأولويات في هذه الاستراتيجيات بما يتوافق مع طبيعة وحجم ونطاق ومكان التهديدات التي تواجهها.